ألم تروا إلى حلاوة منطقه وطلاوة لسانه وأخذ القلوب ما يسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ذلك فيذهب ويستميل قلوب قوم ، ثم يسير بهم إليكم ويخرجكم من بلادكم ، قالوا : صدق والله الشيخ النجدي ، فقال أبو جهل لعنه الله تعالى : والله لأشيرن عليكم برأي لا رأي غيره ، إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شابا وتعطوه سيفا صارما ، فيضربوه ضربة رجل واحد ، فيتفرّق دمه في القبائل ، فلا تقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا ، فقال إبليس الملعون : صدق هذا الفتى هو أجودكم رأيا القول ما قال لا أرى غيره ، فتفرّقوا على قول أبي جهل مجمعين على قتله ، فأتى جبريل عليه الصلاة والسّلام النبيّ صلىاللهعليهوسلم فأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه ، وأذن الله تعالى له عند ذلك بالخروج إلى المدينة فأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم عليا رضي الله عنه فنام في مضجعه ، وقال له : اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه ، ثم خرج النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فأخذ قبضة من تراب ، وأخذ الله تعالى أبصارهم عنه ، وجعل ينثر التراب على رؤوسهم ، وهو يقرأ : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) إلى قوله تعالى : (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [يس ، ٩] ومضى إلى الغار هو وأبو بكر ، وخلف عليا بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت بمكة عنده ، وكانت الودائع تودع عنده لصدقه وأمانته ، وبات المشركون يحرسون عليا على فراش رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحسبون إنه للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فلما أصبحوا بادروا إليه فرأوا عليا ، فقالوا له : وأين صاحبك؟ فقال : لا أدري ، فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه ، فلما بلغوا الغار ، رأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخله لم تكن تنسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثا ، ثم قدم المدينة وأبطل الله مكرهم ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ) أي : يوثقوك ويحبسوك (أَوْ يَقْتُلُوكَ) كلهم قتلة رجل واحد (أَوْ يُخْرِجُوكَ) من مكة (وَيَمْكُرُونَ) بك (وَيَمْكُرُ اللهُ) أي : يردّ مكرهم عليهم بتدبير أمرك بأن أوحي إليك ما دبروه ، وأمرك بالخروج إلى المدينة ، وأخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فقتلوا (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي : أعلمهم به ، فلا ينفذ مكرهم دون مكره.
قال البيضاوي : وإسناد أمثال هذا إنما يحسن للمزاوجة ، ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم ، اه.
واعترض عليه بأنه لا يتعين في مثل ذلك المشاكلة بل يجوز أن يكون ذلك استعارة ؛ لأنّ إطلاق المكر على إخفاء الله تعالى ما أوعده لمن استوجبه إن جعل باعتبار أنّ صورته تشبه صورة المكر فاستعارة ، أو باعتبار الوقوع في صحبة مكر العبد فمشاكلة ، وعلى هذا لا يحتاج كما قال الطيبي إلى وقوعه في صحبة مكر العبد قال : ومنه قول عليّ رضي الله عنه : من وسع الله تعالى عليه في دنياه ولم يعلم إنه مكر به فهو مخدوع في عقله.
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي : القرآن (قالُوا) أي : هؤلاء الذين ائتمروا في أمره صلىاللهعليهوسلم (قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) وهذا غاية مكابرتهم ، وفرط عنادهم ، إذ لو استطاعوا ذلك لفعلوه وإلا فما منعهم لو كانوا مستطيعين ، وقرّعهم بالعجز عشر سنين ، ثم قارعهم بالسيف ، فلم يعارضوا بسورة مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلبوا خصوصا في باب البيان ، وقيل : قائله النضر بن الحرث المقتول صبرا ؛ لأنه كان يأتي الحيرة يتجر فيشتري كتب أخبار العجم ويحدّث بها أهل مكة ، وإسناده إلى الجميع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم ، فكأنه كان قاضيهم ، وقد أسره المقداد يوم بدر ، فأمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم بقتله ، فقال المقداد : أسيري يا رسول الله؟ فقال : «إنه كان يقول في كتاب الله