الاستعانة (لَكَبِيرَةٌ) أي : ثقيلة شاقة كقوله تعالى : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) [الشورى ، ١٣] (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) أي : الساكنين إلى الطاعة ، والخشوع : السكون ، قال تعالى : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) [طه ، ١٠٨] والخضوع : اللين والانقياد ، ولذا يقال : الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب.
(الَّذِينَ يَظُنُّونَ) أي : يستيقنون وأطلق الظنّ على العلم لتضمنه معنى التوقع (أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) بالبعث (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) في الآخرة فيجازيهم بأعمالهم ، وإنما لم تثقل عليهم ثقلها على غيرهم لأنّ نفوسهم مرتاضة بأمثالها متوقعة في مقابلتها ما يستحقر لأجل مشاقها وتستلذ بسببه متاعبها ومن ثم قال عليه الصلاة والسّلام : «وجعلت قرّة عيني في الصلاة» (١).
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) بالشكر عليها بطاعتي ، كرره للتوكيد وتذكير التفضل الذي هو أجل النعم خصوصا ، وربطه بالوعيد الشديد تخويفا لمن غفل عنها وأخلّ بحقوقها وعطف على نعمتي (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) أي : آباءكم الذين كانوا في عصر موسى صلىاللهعليهوسلم وبعده قبل أن يغيروا (عَلَى الْعالَمِينَ) أي : عالمي زمانهم بما منحهم الله من العلم والإيمان والعمل وجعلهم أنبياء وملوكا مقسطين وذلك التفضيل وإن كان في حق الآباء ولكن يحصل به الشرف في الأبناء. واستدل بذلك على أن الأصلح لا يجب على الله لأنّ تفضيلهم لو وجب عليه لم يجز جعله منة عليهم لأنّ من أتى بما وجب عليه لا منة له به على أحد.
(وَاتَّقُوا) خافوا (يَوْماً) أي : ما فيه من الحساب والعقاب وهو يوم القيامة (لا تَجْزِي) أي : لا تقضي (نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ) فيه (شَيْئاً) أي : حقا لزمها.
تنبيه : قول البيضاوي وإيراده أي : شيئا منكرا مع تنكير النفسين للتعميم والإقناط الكلي تبع فيه صاحب «الكشاف» وهو جار على مذهب المعتزلة من أنهم ينكرون الشفاعة للعصاة وسيأتي الجواب عن مذهبهم ولا تقبل بالتاء على التأنيث كما قرأ به ابن كثير وأبو عمرو بالياء على التذكير كما قرأ به الباقون (مِنْها شَفاعَةٌ) أي : من النفس الثانية لقوله تعالى : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) أي : فداء (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي : يمنعون من عذاب الله إذ الضمير في الجملتين للنفوس العاصية ويصح رجوعه للنفس الأولى لأنها المحدّث عنها في قوله تعالى : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ) والثانية مذكورة على سبيل الفضلة لا العمدة وتذكير ضمير ولا هم ينصرون مع أنّ الضمير راجع للنفوس ، وكان المناسب هنّ بالتأنيث لأنه بمعنى العباد أو الأناس كما تقول ثلاثة أنفس بالتاء مع تأنيث النفس لتأويل النفوس بالأشخاص أو الرجال والنصرة أخص من المعونة لاختصاصه بدفع الضرر وقد تمسكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر وأجاب أهل السنة عن ذلك بأجوبة منها : أن الآية مخصوصة بالكفار للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة ويؤيد هذا أنّ الخطاب معهم وعلى هذا يتمشى قول البيضاوي المارّ ويكون المراد حينئذ أنه ليس لها شفاعة فتقبل كما قال تعالى حاكيا عنهم (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) [الشعراء ، ١٠٠].
ومنها : أنّ الآية نزلت ردّا لما كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم تشفع لهم.
ومنها : أنها لا تشفع إلا بإذن الله.
__________________
(١) أخرجه النسائي في عشرة النساء حديث ٣٩٣٩ ، وابن حجر في فتح الباري ١١ / ٣٤٥ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٣ / ١٣١ ، ١٣٨ ، ٥ / ٣١١ ، ٧ / ٣٣٨ ، ٩ / ٥٥٢.