يعظ غيره ولا يتعظ بنفسه بسوء صنيعه وخبث نفسه وإن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل فإنّ الجامع بين العلم والعقل يأبى عن كونه واعظا غير متعظ نفسه ، والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لها ليقوّم نفسه ثم يقوم غيره لا منع الفاسق عن الوعظ فإنّ الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر ، ولكن روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الخطباء من أمّتك يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب» (١) وعن أسامة رضي الله تعالى عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه أي : فتنقطع أمعاؤه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون : أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه» (٢) وقال شعبة عن الأعمش : فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه (وَاسْتَعِينُوا) أي : اطلبوا المعونة على أموركم (بِالصَّبْرِ) أي : الحبس للنفس على ما تكره (وَالصَّلاةِ) أفردها بالذكر تعظيما لشأنها فإنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية من الطهارة وستر العورة وصرف المال فيهما والتوجه إلى الكعبة والعكوف للعبادة وإظهار الخشوع بالجوارح وإخلاص النية بالقلب ومجاهدة الشيطان ومناجاة الرحمن وقراءة القرآن والتكلم بالشهادتين وكف النفس عن الأطيبين وهما الأكل والجماع.
روى الإمام أحمد وغيره «أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» (٣) أي : لجأ إليها ، وحزبه ـ بالحاء المهملة وزاي وباء موحدة ـ : أهمه ونزل به ، وقيل : الخطاب لليهود فهو متصل بما قبله كأنهم لما أمروا بما شق عليهم لما فيه من الكلفة وترك الرياسة والإعراض عن المال أمروا بالصبر وهو الصوم ومنه سمي شهر رمضان شهر الصبر لأنه يكسر الشهوة ويزهد في الدنيا ، والصلاة لأنها تورث الخشوع وتنفي الكبر وترغب في الآخرة ، وقيل : الواو بمعنى على أي : واستعينوا بالصبر على الصلاة كما قال تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه ، ١٣٢] ويحتمل أن يراد بالصلاة : الدعاء (وَإِنَّها) أي : الصلاة ردّ الكناية إليها لأنّ الصبر داخل فيها لاستجماعها ضروبا من الصبر كما قال تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة ، ٦٢] ولم يقل يرضوهما لأن رضا الرسول داخل في رضا الله عزوجل أو لأنها أعم ، كما في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة ، ٣٤] ردّ الكناية إلى الفضة لأنها أعم وقيل : ردّ الكناية إلى كل منهما وأن كل خصلة منهما كما قال تعالى : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) [الكهف ، ٣٣] أي : كل واحدة منهما ، وقيل : معناه : واستعينوا بالصبر وإنه لكبير والصلاة وإنها لكبيرة فحذف أحدهما اختصارا ، وقال الحسين بن الفضل : ردّ الكناية إلى
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٢٣٩ ، ٥ / ١٠ ، والسيوطي في الدر المنثور ١ / ٦٤ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٣ / ٢٣٤.
(٢) أخرجه البخاري في بدء الخلق حديث ٣٢٦٧ ، ومسلم في الزهد حديث ٢٩٨٩.
(٣) أخرجه أبو داود في الصلاة حديث ١٣١٩ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٠٦ ، ٢٦٨ ، ٢٨٠ ، ٥ / ٣٨٨ ، والنسائي في المواقيت باب ٤٦.