وهو طريق الكناية لما مرّ من مقارنتهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر. وقيل : إن المشركين كانوا يقولون : إنّ محمدا إنما ادّعى رسالة الله طلبا للرّياسة والملك ، فلذلك ترك ذكر النبوّة فكأنه يقول مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلا الإيمان بالمبدأ والمعاد ، فذكر المقصود الأصلي وحذف ذكر النبوّة تنبيها للكفار على أنه لا مطلوب له من الرياسة.
فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) والمؤمن يخاف الظلمة والمفسدين؟ أجيب : بأن المراد من هذه الخشية الخوف والتقوى في أبواب الدين ، وأن لا يختار على رضا الله تعالى عنه رضا غيره لتوقع مخوف. وإذا اعترضه أمران : أحدهما : حق الله تعالى ، والآخر : حق نفسه ؛ أن يخاف الله تعالى ، فيؤثر حق الله تعالى على حق نفسه. وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها فأريد نفي تلك الخشية عنهم. ومن عمارة المساجد : ترميمها وفرشها وتنويرها بالسرج التي لا سرف فيها ، وإدامة العبادة فيها والذكر. ومن الذكر درس العلم فيها ، بل هو أجله وأعظمه ، وصيانتها مما لم تبن المساجد لأجله كحديث الدنيا.
روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «يأتي في آخر الزمان ناس من أمّتي يأتون المساجد ، فيقعدون حلقا ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة» (١). وفي الحديث : «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» (٢). وفي «الكشاف» : أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «قال الله تعالى : إنّ بيوتي في أرضي المساجد ، وإنّ زواري فيها عمارها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره» (٣). قال شيخ شيخنا ابن حجر : لم أجده هكذا ، وفي الطبراني عن سلمان رضي الله عنه عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم زائره» (٤).
وروي عنه صلىاللهعليهوسلم : «من ألف المسجد ألفه الله تعالى» (٥) وقال صلىاللهعليهوسلم : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان» (٦). وعن أنس رضي الله عنه : من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوءه.
وروي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «من غدا إلى المسجد وراح أعد الله تعالى له نزلا من الجنة كلما غدا وراح» (٧). وفي قوله تعالى : (فَعَسى أُولئِكَ) أي : الموصوفون بهذه الصفات (أَنْ يَكُونُوا مِنَ
__________________
(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٢ / ٢٧٧.
(٢) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٣ / ٣١ ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٣٠ ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ١٨٦ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٤٥٣.
(٣) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٢ / ٣١ ، والزمخشري في الكشاف ٢ / ٢٣٢ ، والطبراني في المعجم الكبير ٦١٣٩.
(٤) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٦ / ٣١١ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٢ / ٣١ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ١ / ٢١٤ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٣ / ٣٠ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢٠٢٩٤ ، ٢٠٣١٧.
(٥) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٢ / ٢٣ ، والسيوطي في الدر المنثور ٣ / ٢١٧ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٣ / ٢٨ ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء ٤ / ١٤٧٠.
(٦) أخرجه ابن ماجه حديث ٨٠٢ ، والدارمي في الصلاة حديث ١٢٢٣ ، وأحمد في المسند ٣ / ٦٨.
(٧) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٢٨٥ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ١ / ٢١٢ ، والقرطبي في تفسيره ١٢ / ٢٧٦.