فطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يولي ثم قال للعباس : «وكان صيتا صح يا عباس» فنادى : «يا عباد الله يا أصحاب الشجرة» وهم أصحاب بيعة الرضوان المذكورون في قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح ، ١٨] يا أصحاب سورة البقرة قال الطيبي وهم المذكورون في قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) [البقرة ، ٢٨٥] وقيل : الذين أنزلت عليهم سورة البقرة فرجعوا جماعة واحدة يقولون : لبيك لبيك ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين فقال عليه الصلاة والسّلام : «هذا حين حمي الوطيس» أي : اشتدّ الحرب ثم أخذ رسول الله صلىاللهعليهوسلم كفا من تراب فرماهم ثم قال : «انهزموا ورب الكعبة» فانهزموا (١).
وروي أنه صلىاللهعليهوسلم نزل عن البغلة ، ثم أخذ قبضة من تراب الأرض ، ثم استقبل بها وجوههم ، ثم قال : «شاهت الوجوه» (٢). قال سلمة بن الأكوع : فما خلق الله تعالى منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة ، فولوا مدبرين فهزمهم الله تعالى. (فَلَمْ تُغْنِ) أي : الكثرة. (عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي : برحبها أي : بسعتها لا تجدون فيها مقرا تطمئن إليه نفوسكم من شدّة الرعب ، ولا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه. (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) أي : الكفار ظهوركم مدبرين أي : منهزمين ، والإدبار الذهاب إلى خلف خلاف الإقبال.
(ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) أي : رحمته التي سكنوا إليها وأمنوا. (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي : على الذين انهزموا ، فردّوا إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم لما ناداهم العباس بإذنه صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : هم الذين ثبتوا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين وقع الحرب. (وَأَنْزَلَ جُنُوداً) أي : ملائكة (لَمْ تَرَوْها) بأعينكم قال سعيد بن جبير : مد الله نبيه صلىاللهعليهوسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ، وقيل : ثمانية آلاف ، وقيل : ستة عشرة ألفا.
وروي أنّ رجلا من بني النضير قال للمؤمنين بعد القتال : أين الخيل البلق ، والرجال الذين عليهم ثياب بيض ما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة ، وما قتلنا إلا بأيديهم ، فأخبروا بذلك النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : «تلك الملائكة» (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر وسبي العيال وسلب المال. (وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أي : ما فعل بهم جزاء كفرهم في الدنيا.
روي أنه صلىاللهعليهوسلم لما قسم ما أفاء الله عليه يوم حنين في الناس ، وفي المؤلفة قلوبهم ، لم يعط الأنصار شيئا ، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس ، فخطبهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «يا معاشر الأنصار : ألم أجدكم ضلالا ، فهداكم الله بي ، وكنتم متفرّقين فألفكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي» كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أنّ قال : «ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله ، لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا. أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبيّ إلى رحالكم ، لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، لو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم ، الأنصار شعار ، والناس دثار ، إنكم ستلقون بعدي أثرة ، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» (٣) وعن رافع بن خديج أعطى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أبا سفيان بن حرب ، وصفوان بن أمية ، وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس ، كل إنسان منهم مائة من الإبل ، وأعطي عباس بن مرداس دون ذلك فقال
__________________
(١) أخرجه مسلم في الجهاد حديث ١٧٧٥.
(٢) تقدم الحديث مع تخريجه.
(٣) أخرجه البخاري في المغازي حديث ٤٣٣٠ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٠٦١.