لا يعظمه بل يلعنه ويستخف به وأمّا هؤلاء فكانوا يقبلون قول الأحبار والرهبان ويعظمونهم وقد يبالغ بعض الجهال في تعظيم شيخه بحيث يميل طبعه إلى القول بالحلول والاتحاد وذلك الشيخ إذا كان طالبا للدنيا بعيدا عن الآخر بعيدا عن الدين قد يلقي إليهم أنّ الأمر كما يقولون ويعتقدون ، وعن الفضيل رضي الله تعالى عنه ما أبالي أطعت مخلوقا في معصية الخالق أو صليت لغير القبلة (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) أي : اتخذوه كذلك لكونهم جعلوه ابنا فأهلوه للعبادة بذلك مع كونه ابن مريم فهو لا يصلح للإلهية بوجه لمشاركته للآدميين في الحمل والولادة والأكل والشرب وغير ذلك من أحوال البشر الموجبة للحاجة المنافية للإلهية (وَما أُمِرُوا) أي : في التوراة والإنجيل (إِلَّا لِيَعْبُدُوا) أي : ليطيعوا على وجه التعبد (إِلهاً واحِداً) أي : لا يقبل القسمة بوجه لا بالذات ولا بالمماثلة وهو الله تعالى وأما طاعة الرسول صلىاللهعليهوسلم وطاعة من أمر الله بطاعته فهي في الحقيقة طاعة الله تعالى وقوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) صفة ثانية أو استئناف مقرّر للتوحيد (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : تعالى وتنزه عن أن يكون له شريك في العبادة والأحكام وأن يكون له شريك في الإلهية يستحق التعظيم والإجلال.
(يُرِيدُونَ) أي : رؤساء اليهود والنصارى (أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) أي : شرعه وبراهينه الدالة على واحدانيته وتقديسه عن الولد أو القرآن أو نبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم (بِأَفْواهِهِمْ) أي : بأقوالهم الكاذبة وشركهم وفي تسمية دينه أو القرآن أو نبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم نورا ومعاندتهم إطفاءه بأفواههم تمثيل لحالهم في طلبهم أن يبطلوا نور الله بالتكذيب بالشرك بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق والإضاءة ليطفئه بنفخه ويطمسه (وَيَأْبَى اللهُ) أي : لا يرضى (إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) بإعلاء التوحيد وإعزاز الإسلام.
فإن قيل : كيف جاز أبى الله إلا كذا ولا يقال كرهت أو أبغضت إلا زيدا؟ أجيب : بأنه أجرى أبى مجرى لم يرد ألا ترى كيف قوبل (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا) بقوله : (وَيَأْبَى اللهُ) وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلا أن يتم نوره وقوله تعالى : (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) محذوف الجواب لدلالة ما قبله أي : ولو كرهوا غلبته.
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) محمدا صلىاللهعليهوسلم (بِالْهُدى) أي : القرآن الذي أنزله عليه وجعله هاديا له (وَدِينِ الْحَقِ) أي : دين الإسلام (لِيُظْهِرَهُ) أي : ليعليه (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي : جميع الأديان المخالفة له وهذا كالبيان لقوله تعالى : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) ولذلك كرّر (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) غير أنه وضع المشركون موضع الكافرون للدلالة على أنهم ضمو الكفر بالرسول إلى الشرك بالله تعالى.
فإن قيل : الإسلام لم يضمّ غالبا لسائر الأديان في أرض الصين والهند والروم وسائر بلاد الكفر أجيب عن ذلك بأوجه :
الأوّل : بأنه لا دين بخلاف الإسلام إلا وقد قهرهم المسلمون وظهروا عليهم في بعض المواضع وإن لم يكن ذلك في جميع مواضعهم فقهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب وغلبوا النصارى على بلاد الشأم وما والاها إلى ناحية الروم والمغرب وغلبوا المجوس على ملكهم وغلبوا عبّاد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الهند والترك وكذا سائر الأديان فثبت أنّ الذي أخبر الله تعالى عنه في هذه الآية قد وقع وحصل فكان ذلك إخبارا عن الغيب فكان معجزا.