كثرة المال والجاه تورث الطغيان كما قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق ، آيتان : ٦ ـ ٧] فالطغيان يمنع من وصول العبد إلى مقام رضوان الرحمن ويوقع في الخذلان والخسران ومنها أنه تعالى أوجب الزكاة وذلك سعي في تنقيص المال ولو كان تكثيره فضيلة لما سعى الشرع في تنقيصه.
فإن قيل : قال عليه الصلاة والسّلام : «اليد العليا خير من اليد السفلى» (١) أجيب : بأنّ اليد العليا إنما إفادته صفة الخيرية لأنه لما أعطى ذلك القليل تسبب أنه حصل في ماله ذلك النقصان القليل فحصل له الخيرية وبسبب أنه حصل للفقير بذلك الزيادة القليلة حصلت له المرجوحية.
فإن قيل : إنه تعالى ذكر شيئين وهما الذهب والفضة ثم قال : (وَلا يُنْفِقُونَها) فلم أفرد الضمير؟ أجيب : بأنّ الضمير راجع إلى المعنى دون اللفظ لأنّ كل واحد منهما جملة وافية وعدّة كثيرة ودنانير ودراهم فهو كقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات ، ٩] وقيل : ذهب به إلى المكنوز ، وقيل : إلى الأموال ، وقيل : التقدير ولا ينفقون الفضة وحذف الذهب لأنه داخل في الفضة من حيث إنهما معا يشتركان في ثمنية الأشياء أو أن ذكر أحدهما يغنى عن الآخر كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة ، ١١] جعل الضمير للتجارة وقيل :
التقدير والذهب كذلك كما أنّ قول القائل (٢) :
فإني وقيار بها لغريب
أي : وقيار كذلك.
فإن قيل : ما السبب في كونه خصهما بالذكر من سائر الأموال؟ أجيب : بأنهما خصا من دون سائر الأموال لأنهما أشرف الأموال وهما اللذان يقصدان بالكنز ومن كنزا عنده لم يعدم سائر أجناس المال فكان ذكر كنزهما دليلا على ما سواهما ثم إنه تعالى لما ذكر من يكنز الذهب والفضة قال تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ) أي : أخبرهم (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي : مؤلم وعبر بالبشارة على سبيل التهكم.
(يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها) أي : الكنوز بأن تدخل (فِي نارِ جَهَنَّمَ) فيوقد عليها (فَتُكْوى) أي : تحرق (بِها) أي : بهذه الأموال (جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) قال ابن مسعود رضي الله عنه لا يوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضع على حدته ، وسئل أبو بكر الورّاق لم خصت الجباه والجنوب والظهور بالكي قال : لأنّ الغنيّ صاحب الكنز إذا رأى الفقير قبض جبهته وإذا جلس الفقير بجنبه تباعد عنه وولى عليه ظهره ،
__________________
(١) أخرجه البخاري في الزكاة حديث ١٤٢٧ ، ١٤٢٩ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٠٣٦ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣٤٣ ، والنسائي في الزكاة حديث ٢٥٣١ ، والدارمي في الزكاة حديث ١٦٥٢.
(٢) صدره :
فمن يك أمس بالمدينة رحله
والبيت من الطويل ، وهو الضابئ بن الحارث البرجمي في الأصمعيات ص ١٨٤ ، والإنصاف ص ٩٤ ، وتخليص الشواهد ص ٣٨٥ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٢٦ ، و ١٠ / ٣١٢ ، ٣١٣ ، ٣٢٠ ، والدرر ٦ / ١٨٢ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٦٩ ، وشرح التصريح ١ / ٢٢٨ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٦٧ ، وشرح المفصل ٨ / ٨٦ ، والشعر والشعراء ص ٣٥٨ ، والكتاب ١ / ٧٥ ، ولسان العرب (قير) ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٨٦ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٣١٨ ، ونوادر أبي زيد ص ٢٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ١٠٣ ، وأوضح المسالك ١ / ٣٥٨ ، ورصف المباني ص ٢٦٧ ، وسر صناعة الإعراب ص ٣٧٢ ، وشرح الأشموني ١ / ١٤٤ ، ومجالس ثعلب ص ٣١٦ ، ٥٩٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٤٤.