يجب عوده إلى أقرب المذكورات وأقرب المذكورات المتقدّمة في هذه الآية هو أبو بكر لأنه تعالى قال : (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ) والتقدير إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن وعلى هذا التقدير فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر فوجب عود الضمير إليه. والثاني : أنّ الحزن والخوف كانا حاصلين لأبي بكر لا للرسول صلىاللهعليهوسلم فإنه كان آمنا ساكن القلب فيما وعده الله تعالى أن ينصره على قريش فلما قال لأبي بكر : لا تحزن صار آمنا فصرف السكينة لأبي بكر ليصير ذلك سببا لزوال خوفه أولى من صرفها إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم مع أنه كان قبل ذلك ساكن النفس قويّ القلب. الثالث : إنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول صلىاللهعليهوسلم لوجب أن يقال : إنّ الرسول كان قبل ذلك خائفا ولو كان خائفا لما أمكنه أن يقول لأبي بكر : «لا تحزن إنّ الله معنا» فمتى كان خائفا لم يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره ولو كان راجعا إلى الرسول لوجب أن يقال : فأنزل الله سكينته عليه فقال لصاحبه : «لا تحزن» فيكون ذلك مما يدلّ على فضيلة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ومنها حديث الهجرة على صاحبها أفضل الصلاة والسّلام عن عائشة رضي الله عنها وعن أبويها قالت : لم أعقل أبويّ إلا وهما يدينان الدين ولم يمرّ علينا يوم إلا ورسول الله صلىاللهعليهوسلم يأتينا طرفي النهار بكرة وعشية فلما ابتلي المسلمون قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم لأبي بكر : «إني رأيت دار هجرتكم سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان» فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامّة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهز أبو بكر رضي الله عنه قبل المدينة فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي» فقال أبو بكر : وهل ترجون ذلك يا رسول الله قال : «نعم» فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق الشجر وهو الخبط أربعة أشهر ، قالت عائشة : فبينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في حرّ الظهيرة قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله صلىاللهعليهوسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر : والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر ، قالت : فجاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأبي بكر : «أخرج من عندك» فقال أبو بكر : إنما هم أهلك يا رسول الله ، فقال : «قد أذن لي في الخروج» فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله ، قال : «نعم» قال أبو بكر : فخذ إحدى راحلتيّ هاتين ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «بالثمن» قالت عائشة : فجهزناهما أحبّ الجهاز ووضعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فسميت بذلك ذات النطاقين قالت : ثم لحق رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الرحمن بن أبي بكر وهو غلام شاب فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام وكان يرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء يفعل ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا عارفا بالهداية وهو على دين كفار قريش فأمناه ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما بعد صبح ثلاث فارتحلا وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديليّ فأخذ بهم طريق الساحل فعلم بهم سراقة بن مالك المدلجي وكان كفار قريش جعلوا في رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبي بكر كل واحد منهما لمن قتله أو أسره دية قال سراقة فتبعتهم حتى دنوت فعثرت فرسي فخررت عنها فقمت وأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرّهم أم لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام فقربت بي حتى سمعت قراءة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات فساخت يدا فرسي في الأرض