للنبي صلىاللهعليهوسلم فيه من الله تعالى نهي فيعد معصية ولأعده الله تعالى معصية عليه بل لم يعده أهل العلم معاتبة وغلطوا من ذهب إلى ذلك وليس عفا بمعنى غفر بل كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق» (١) ولم تجب عليهم قط أي : لم يكن يلزمكم ذلك. ونحوه للقشيري قال : وإنما يقول : العفو لا يكون إلا عن ذنب ، من لا يعرف كلام العرب. وقال مكي : هو استفتاح كلام مثل أصلحك الله وأعزك. وقال السمرقندي : إن معناه عافاك الله ، وقال الرازي : إن ذلك يدل على مبالغة الله في توقيره وتعظيمه كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظما عنده عفا الله عنك ما جوابك عن كلامي ورضي الله عنك ما صنعت في أمري فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا مزيد التمجيد والتعظيم أي : كما كانت عادة العرب في مخاطبتهم لأكابرهم بأن يقولوا : أصلح الله الأمير والملك ونحو ذلك. (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) أي : في اعتذارهم (وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) أي : فيما أظهروا من الإيمان باللسان لو لم يؤذن لهم لقعدوا بلا إذن غير مراعين ميثاقهم الذي واثقوك عليه بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره قال ابن عباس : لم يكن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعرف المنافقين يومئذ حتى نزلت براءة.
(لا يَسْتَأْذِنُكَ) أي : لا يطلب إذنك بغاية الرغبة فيه (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي : الذي يكون فيه الجزاء بالثواب والعقاب (أَنْ) أي : في أن (يُجاهِدُوا) وإنما حسن هذا الحذف لظهوره (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) بل يبادرون إلى الجهاد عند إشارتك إليه وبعثك عموما عليه فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف عنه فإن الخلص من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون لا نستأذنه صلىاللهعليهوسلم في الجهاد فإن ربنا ندبنا إليه مرّة بعد مرّة فأيّ فائدة في الاستئذان ولنجاهد معه بأموالنا وأنفسنا وكانوا بحيث لو أمرهم صلىاللهعليهوسلم بالقعود لشق عليهم كما وقع لعليّ رضي الله عنه في غزوة تبوك لما أمره رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأن يبقى في المدينة شق عليه ولم يرض حتى قال له صلىاللهعليهوسلم : «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» (٢)(وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) أي : الذين يتقون مخالفته ويسارعون إلى طاعته.
(إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ) يا محمد في التخلف عن الجهاد معك من غير عذر (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وهم المنافقون لأنهم لا يرجون ثوابا ولا يخافون عقابا (وَارْتابَتْ) أي : شكت (قُلُوبُهُمْ) في الدين وإنما أضاف الشك والارتياب إلى القلب لأنه محل المعرفة والإيمان فإذا داخله الشك كان ذلك نفاقا (فَهُمْ) أي : فتسبب عن ذلك أنهم (فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) أي : المنافقون ويتحيرون لا مع الكفار ولا مع المؤمنين.
تنبيه : اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآيات فقيل إنها منسوخة بالآية التي في سورة النور وهي قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) [النور ، ٦٢] وقيل : إنها محكمات كلها ووجه الجمع بين هذه الآيات أن المؤمنين كانوا يسارعون إلى طاعة الله تعالى وجهاد عدوهم من غير استئذان فإذا عرض لأحدهم عذر استأذن في التخلف فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم مخيرا في الإذن لهم بقوله تعالى : (فَأْذَنْ لِمَنْ
__________________
(١) أخرجه بنحوه الترمذي في الزكاة حديث ٦٢٠ ، وابن ماجه في الزكاة حديث ١٧٩٠ ، والدارمي في الزكاة حديث ١٦٢٩.
(٢) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٧٠٦ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٤٠٤ ، والترمذي في المناقب حديث ٣٧٢٤ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ١١٥.