ذلك استدراج ووبال كما قال تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وإن كان يتراءى أنها لذيدة لأنّ ذلك من شأن الحياة وتعذيبهم فيها بسبب ما يكابدون من جمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها من الشدائد والمصائب.
فإن قيل : هذا لا يختص بالمنافق فما فائدة تخصيصه به؟ أجيب : بأنّ المؤمن قد علم أنه مخلوق للآخرة وأنه يثاب بالمصائب الحاصلة في الدنيا فلم يكن المال والولد في حقه عذابا والمنافق لا يعتقد ذلك فبقي ما يحصل له في الدنيا من التعب والمشقة والغم والحزن على المال والولد عذابا عليه في الدنيا (وَتَزْهَقَ) أي : تخرج (أَنْفُسُهُمْ) بسببها (وَهُمْ) أي : والحال أنهم (كافِرُونَ) أي : يموتون على الكفر فتكون عاقبتهم بعد عذاب الدنيا عذاب الآخرة وهكذا كل من أراد الله تعالى استدراجه في الغالب كثر ماله وولده فكثر إعجابه بماله وولده وبطره وكفره نعمة الله تعالى.
والإعجاب السرور بالشيء مع نوع الافتخار به ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه وهذه الحالة تدل على استغراق النفس بذلك الشيء وانقطاعه عن الله تعالى فإنه لا يبعد في حكم الله تعالى أن يزيل ذلك الشيء عن ذلك الإنسان ويجعله لغيره والإنسان متى كان متذكرا لهذا المعنى زال إعجابه بذلك الشيء ولذلك قال صلىاللهعليهوسلم : «ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه» (١) وكان صلىاللهعليهوسلم يقول : «هلك المكثرون» (٢) ، وقال أيضا : «ما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأبقيت» (٣).
وروي من كثر ماله اشتدّ حسابه ومن أراد من السلطان قربا ازداد من الله بعدا والأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة والمقصود منها الزجر عن الإطناب من الدنيا والمنع من التهالك في حبها والافتخار بها لأنّ الإنسان خلق للآخرة لا للدنيا فينبغي أن لا يشتدّ عجبه بالدنيا وأن لا يميل قلبه إليها فإن المسكن الأصلي له هو الآخرة لا الدنيا ، ولما بين تعالى كون المنافقين مستجمعين لكل مضار الدنيا والآخرة خالين عن جميع منافع الآخرة والدنيا عاد إلى ذكر فضائحهم وقبائحهم فمنها إقدامهم على الأيمان الكاذبة كما قال تعالى : (وَيَحْلِفُونَ) أي : المنافقون (بِاللهِ) للمؤمنين إذا جاؤوا معهم (إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) أي : على دينكم وملتكم (وَما هُمْ مِنْكُمْ) أي : لكفر قلوبهم (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) أي : يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلوا بالمشركين فيظهرون الإسلام تقية.
(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) أي : حصنا يلجؤن إليه وقيل : لو وجدوا مهربا هربوا إليه ، وقيل : لو يجدون قوما يأمنون عندهم على أنفسهم منكم لصاروا إليهم وفارقوكم (أَوْ مَغاراتٍ) أي : سراديب
__________________
(١) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ٢ / ٣٤٣ ، و ٣ / ٢١٩ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٨ / ١٩٢ ، و ٣٣٧ ، ٤٠٧ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٣٨٦٦ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٣٨٦.
(٢) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٥٢٥ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٤ / ١٨٥ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٣ / ١٢٠ ، ١٢١ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٤ / ١١ ، ٨ / ١٤٥ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٦٢٨٦.
(٣) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٢٩٥٨ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣٤٢ ، والنسائي في الوصايا حديث ٣٦١٣.