سلطهم على التكلم فيها وبمن قاسمها.
(وَمِنْهُمُ) أي : المنافقين (الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) هذا نوع آخر من جهالات المنافقين وهو أنهم كانوا يؤذون النبيّ صلىاللهعليهوسلم ويعيبونه وينقلون حديثه (وَيَقُولُونَ) إذا نهوا عن ذلك لئلا يبلغه (هُوَ أُذُنٌ) أي : يسمع كل ما يقال له ويصدقه سمي بالجارحة للمبالغة كأنه من فرط استماعه صار جملته آلة للسماع كما يسمى الجاسوس عينا لذلك واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عباس : نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يؤذون رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال بعضهم لبعض : لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا فقال الجلاس بن سويد وهو من المنافقين : بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فننكر ما قلنا ونحلف له فيصدقنا فيما نقول فإنّ محمدا أذن ـ أي : أذن سامعة ـ يسمع كل ما يقال له ويقبله ، وقال محمد بن إسحاق : نزلت في رجل من المنافقين يقال له : نبتل ابن الحارث وكان رجلا ثائر الشعر أحمر العينين أسفع الخدين مشوّه الخلقة وقد قال صلىاللهعليهوسلم : «من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث» (١) وكان ينم حديث النبيّ صلىاللهعليهوسلم إلى المنافقين فقيل له : لا تفعل ذلك فقال : إنما محمد أذن فمن حدثه شيئا صدقه فنقول : ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا ، فنزلت. وقال الحسن : كان المنافقون يقولون : ما هذا الرجل إلا أذن من شاء صرفه حيث شاء لا عزيمة له.
ومقصود المنافقين بقولهم هو أذن ليس له ذكاء ولا بعد غور بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع فلهذا السبب سموه بأذن وقوله تعالى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المنافقين (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) تصديق لهم بأنه أذن لكن لا على الوجه الذي ذموه به بل من حيث إنه يسمع الخير ويقبله ثم فسر تعالى ذلك بقوله تعالى : (يُؤْمِنُ بِاللهِ) أي : يصدّق به لما قام عنده من الأدلة (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : ويصدّقهم ويقبل قولهم ولا يقبل قول المنافقين.
فإن قيل : لم عدى فعل الإيمان بالباء إلى الله تعالى وإلى المؤمنين باللام أجيب : بأنّ الإيمان المعدى إلى الله تعالى المراد التصديق الذي هو نقيض الكفر ، فعدي بالباء ، والإيمان المعدي للمؤمنين معناه الاستماع منهم والتسليم لقولهم فعدي باللام كما في قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) [يوسف ، ١٧] وقوله تعالى : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) [يونس ، ٨٣] وقوله تعالى : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء ، ١١١] وقوله : (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) [طه ، ٧١] وقرأ نافع : أذن في الموضعين بتسكين الذال ، والباقون بالرفع (وَرَحْمَةٌ) أي : وهو رحمة (لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي : لمن أظهر الإيمان حيث يقبله ولا يكشف سرّه وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قولكم جهلا بحالكم بل رفقا بكم وترحما عليكم وقرأ حمزة ورحمة بالجرّ عطفا على خير ، والباقون بالرفع ، ولما بين سبحانه وتعالى كونه سببا للخير بين أنّ كل من آذاه استوجب العذاب الأليم بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم لأنه إذا كان يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم مع كونهم في غاية الخبث والخزي ثم أنهم مع ذلك يقابلون إحسانه بالإساءة وخيراته بالشرور فلا شك أنهم يستحقون العذاب الشديد من الله تعالى ثم ذكر نوعا آخر من قبائح أفعال المنافقين بقوله تعالى :
__________________
(١) أخرجه الواحدي في أسباب النزول ١٦٨.