في التنبيه على بعدهما مما قصدوا لأنفسهم من النفع بقوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي : الذين خسروا الدنيا والآخرة والمعنى أنه كما بطل أعمال الكفار الماضين وخسروا تبطل أعمالكم أيها المنافقون وتخسرون.
وفي الالتفات إلى مقام الخطاب إشارة إلى تحذير كل سامع عن مثل هذه المقالة قال بعض كبراء التابعين : أدركت سبعين ممن أدرك النبيّ صلىاللهعليهوسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه وذكر أنّ مالكا رحمهالله تعالى دخل المسجد بعد العصر وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر فجلس ولم يركع فقال له صبيّ : يا شيخ قم فاركع فقام وركع ولم يحاجه بما يراه مذهبا فقيل له في ذلك فقال : خشيت أن أكون من الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون.
وروي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما» (١) وقال تعالى : (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) [التوبة ، ٥٤] ينظر المنافق إلى ما يسقط فضائل أهل الفضل ويتعامى عن محاسنهم.
كما روي أنّ الله تعالى يبغض التارك لحسنة المؤمن الآخذ لسيئته والمؤمن الصادق يتغافل عن مساوئ أهل المساوئ فكيف بمعايب أهل المحاسن والمنافق يأخذ من الدين ما ينفع في الدنيا ولا يأخذ ما ينفع في العقبى ويجتنب في الدين ما يضر في الدنيا ولا يجتنب ما يضر في العقبى مما لا يضر في الدنيا.
ويذكر أن رجلا من صلحاء المسلمين دخل كنيسة فقال لراهب فيها : دلني على موضع طاهر أصلي فيه ، فقال له الراهب : طهر قلبك مما سواه وقم حيث شئت ، قال المسلم : فخجلت منه.
وقوله عز من قائل : (أَلَمْ يَأْتِهِمْ) فيه رجوع من الخطاب إلى الغيبة أي : ألم يأت هؤلاء المنافقين والكفار وهو استفهام بمعنى التقرير أي : قد أتاهم (نَبَأُ) أي : خبر (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم الماضية الذين خلوا من قبلهم كيف أهلكناهم حين خالفوا أمرنا وعصوا رسلنا ، ولما شبه تعالى المنافقين بالكفار المتقدّمين في الرغبة في الدنيا وفي تكذيب الأنبياء والمبالغة في إيذائهم لرسلهم بين منهم ستة طوائف :
الأولى : (قَوْمِ نُوحٍ) أهلكوا بالطوفان.
(وَ) الثانية : (عادٍ) وهم قوم هود أهلكوا بالريح.
(وَ) الثالثة : (ثَمُودَ ،) وهم قوم صالح أهلكوا بالرجفة.
(وَ) الرابعة : (قَوْمِ إِبْراهِيمَ) أهلكوا بسلب النعمة وأهلك نمروذ ببعوضة سلطها الله تعالى على دماغه فقتلته.
(وَ) الخامسة : (أَصْحابِ مَدْيَنَ) وهم قوم شعيب ويقال إنهم من ولد مدين بن إبراهيم أهلكوا بعذاب يوم الظلة.
(وَ) السادسة : (الْمُؤْتَفِكاتِ) وهم قوم لوط أي : أهلها أهلكوا بأن جعل الله تعالى أعالي أرضهم سافلها وأمطر عليهم حجارة ، وإنما ذكر الله تعالى هذه الطوائف الستة لأنّ آثارهم باقية وبلادهم بالشام والعراق واليمن وكل ذلك قريب من بلاد العرب فكانوا يمرّون عليهم ويعرفون
__________________
(١) أخرجه مالك في صلاة الجماعة حديث ٥ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٣ / ٩.