(يَحْلِفُونَ) أي : المنافقون (بِاللهِ ما قالُوا) أي : ما بلغك عنهم من السب والمفسرون ذكروا في أسباب نزول هذه الآية وجوها.
الأوّل : روي أنه عليه الصلاة والسّلام أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المتخلفين فقال الجلاس بن سويد : لئن كان ما يقول محمد في إخواننا الذين خلفناهم بالمدينة حقا لنحن شرّ من الحمير ، فقال عامر بن قيس الأنصاريّ للجلاس : أجل والله إنّ محمدا صادق وأنت شرّ من الحمار ، فبلغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم فاستحضره فحلف بالله عزوجل ما قاله فرفع عامر يده وقال : اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب فنزلت فقال الجلاس : لقد ذكر الله تعالى التوبة في هذه الآية ولقد قلت هذا الكلام وصدق عامر ثم تاب وحسنت توبته.
الثاني : أنها نزلت في عبد الله بن أبي لما قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وأراد به الرسول صلىاللهعليهوسلم فسمع زيد بن أرقم ذلك فبلغه النبيّ صلىاللهعليهوسلم فهم عمر رضي الله عنه بقتل عبد الله بن أبي فجاء عبد الله بن أبي وحلف أنه لم يقل.
الثالث : روى قتادة أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار فظهر الجهني على الغفاري فقال عبد الله بن أبي للأوس : انصروا أخاكم فو الله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فأرسل إليه فسأله فحلف بالله ما قاله فنزلت (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) وهي سب النبيّ صلىاللهعليهوسلم وقيل : هي كلمة الجلاس بن سويد ، وقيل : هي كلمة عبد الله بن أبيّ (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أي : وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) أي : من قتل النبيّ صلىاللهعليهوسلم عند مرجعه من تبوك توافق خمسة عشر منهم إذا تسنم العقبة أي : علاها بالليل فأخذ عمار بن ياسر بخطام ناقته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها فبينما هم كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله ، فهربوا.
وقيل : هم المنافقون هموا بقتل عامر حين ردّ على الجلاس.
وقيل : أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَما نَقَمُوا) أي : وما أنكروا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم شيئا (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) فإنّ أكثر أهل المدينة كانوا قبل قدوم النبيّ صلىاللهعليهوسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحرزون الغنيمة وبعد قدومه أخذوا الغنائم وفازوا بالأموال ووجدوا الدولة وذلك يوجب أن يكونوا محبين له مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله وقتل للجلاس مولى فأمر له رسول الله صلىاللهعليهوسلم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى فالمنافقون عملوا بضدّ الواجب فوضعوا موضع شكره صلىاللهعليهوسلم أن نقموا منه.
وقال ابن قتيبة معناه ليس هناك شيء ينقمون منه ولا يعيبون من الله إلا الصنيع وهذا كقول الشاعر (١) :
ما نقموا من بني أمية إلا |
|
أنهم يحلمون إن غضبوا |
وكقول النابغة (٢) :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم |
|
بهنّ فلول من قراع الكتائب |
__________________
(١) البيت من المنسرح ، وهو لابن قيس الرقيات في ديوانه ص ٤ ، ولسان العرب (نقم) وتهذيب اللغة ٩ / ٢٠٢ ، والبيان والتبيين ٣ / ٣٦١ ، وطبقات فحول الشعراء ص ٦٥٤ ، وتاج العروس (نقم).
(٢) تقدم البيت مع تخريجه.