تعالى إذا أوحى إلى رسوله صلىاللهعليهوسلم الإعلام بأحوالهم وما في ضمائرهم من الشرّ والفساد لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أي : أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه (ثُمَّ تُرَدُّونَ) أي : بالبعث (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : الله المطلع على ما في ضمائركم من الخيانة والكذب وإخلاف الوعد وغير ذلك من الخبائث التي أنتم عليها فيجازيكم عليه.
(سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ) أي : رجعتم (إِلَيْهِمْ) من تبوك إنهم معذورون في التخلف (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي : لتصفحوا عنهم فلا تعاتبوهم (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي : فدعوهم وما اختاروا لأنفسهم من النفاق ، قال ابن عباس : يريد ترك الكلام والسّلام قال مقاتل : قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم حين قدم المدينة : «لا تجالسوهم ولا تكلموهم» (١) قال أهل المعاني : هؤلاء طلبوا إعراض الصفح فأعطوا إعراض المقت ثم ذكر تعالى علة الإعراض بقوله : (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) أي : قذر لخبث باطنهم فكما يجب الاحتراز عن الأنجاس الجسمانية يجب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية خوفا من سريانها إلى الإنسان وحذرا من أن يميل طبع الإنسان إلى تلك الأعمال وقوله تعالى : (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) من تمام العلة (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الأعمال الخبيثة في الدنيا واختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الآية فقال ابن عباس : نزلت في الجد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما كانوا ثمانين رجلا من المنافقين فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم حين قدم المدينة : «لا تجالسوهم ولا تكلموهم» وقال مقاتل : نزلت في عبد الله بن أبيّ حلف للنبي صلىاللهعليهوسلم بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها وطلب من النبيّ صلىاللهعليهوسلم أن يرضى عنه فأنزل الله تعالى هذه الآية ونزل.
(يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) أي : يحلف لكم هؤلاء المنافقون لترضوا عنهم بحلفهم فتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ) أي : فإن رضيتم عنهم أيها المؤمنون بما حلفوا إليكم وقبلتم عذرهم (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) لأنه تعالى يعلم ما في قلوبهم من النفاق والشك فلا يرضى عنهم والمقصود من الآية عدم الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم بعد الأمر بالإعراض عنهم وعدم الالتفات نحوهم.
ونزل في سكان البادية : (الْأَعْرابُ) أي : أهل البدو (أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) أي : من أهل الحضر لجفائهم وغلظ طباعهم وبعدهم عن أهل العلم وقلة استماعهم الكتاب والسنة واستيلاء الهواء الحار اليابس عليهم وذلك يوجب مزيد التيه والتكبر والنخوة والفخر والطيش عليهم وليسوا تحت سياسة سائس ولا تأديب مؤدّب ولا ضبط ضابط فنشؤوا كما شاؤوا ومن كان كذلك خرج على أشدّ الجهات نفاقا ولو قابلت الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية لعرفت الفرق بين أهل الحضر وأهل البادية.
قال العلماء من أهل اللغة : يقال : رجل عربي إذا كان له نسب في العرب وجمعه العرب كما يقال : مجوسي ويهودي ثم تحذف ياء النسب في الجمع فيقال : المجوس واليهود ورجل أعرابي بالألف إذا كان بدويا يطلب مساقط الغيث والكلأ وسواء كان من العرب أم من مواليهم ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعاريب.
__________________
(١) أخرجه ابن الجوزي في زاد المسير ٣ / ٤٨٧ ، والزمخشري في تفسيره ٢ / ٢٨٨.