عذرهم (مِنْ سَبِيلٍ) أي : طريق إلى ذمهم أو لومهم والمعنى أنه سدّ بإحسانه طريق العتاب ومن أعظم الإحسان من شهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله مخلصا من قلبه فإن ما عليه من سبيل في نفسه وماله لإباحة الشرع بدليل منفصل إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، والمحسن هو الآتي بالإحسان ورأس أبواب الإحسان ورئيسها هو قول : لا إله إلا الله محمد رسول الله (وَاللهُ غَفُورٌ) أي : محاء للذنوب (رَحِيمٌ) أي : بجميع عباده ، وفي ذلك إشارة إلى أن الإنسان محل التقصير وإن اجتهد فلا يسعه إلا العفو ولما ذكر الله سبحانه وتعالى الضعفاء والمرضى والفقراء وبين أنه يجوز لهم التخلف عن الجهاد بشرط أن يكونوا ناصحين لله ورسوله وهو كونهم محسنين وأنه ليس لأحد عليهم سبيل ذكر قسما رابعا من المعذورين بقوله تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) إلى الغزو وهم البكاؤون سبعة من الأنصار معقل بن يسار وصخر ابن خنساء وعبد الله بن كعب وسالم بن عمير وثعلبة بن عنمة وعبد الله بن مغفل وعلبة بن زيد أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقالوا : بدرنا بالخروج أي : أسرعنا فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزو فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا أجد ما أحملكم عليه» (١) فتولوا وهم يبكون ولذلك سموا البكائين وقيل : هم بنو مقرن من مزينة وكانوا ثلاثة إخوة معقل وسويد والنعمان وقيل : أبو موسى وأصحابه وقيل : نزلت في العرباض ابن سارية ، ويحتمل أنها نزلت في كل من ذكر ، وقوله تعالى : (قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) حال من الكاف في أتوك بإضمار قد وقوله تعالى : (تَوَلَّوْا) جواب إذا (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ) أي : تسيل (مِنَ الدَّمْعِ) أي : دمعها فان ، ومن للبيان كقولك : أفديك من رجل ، وهو أبلغ من يفيض دمعها لأنه يدلّ على أن العين صارت دمعا فياضا وقوله تعالى : (حَزَناً) منصوب على العلة (أَلَّا يَجِدُوا) أي : لئلا يجدوا محله نصب على أنه مفعول له وناصبه المفعول له الذي هو حزنا (ما يُنْفِقُونَ) في الجهاد ولما قال تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) قال تعالى في حق من يعتذر : (ولا عذر له.)
(إِنَّمَا السَّبِيلُ) أي : إنما يتوجه الطريق بالعقوبة (عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) يا محمد في التخلف عنك والجهاد (وَهُمْ أَغْنِياءُ) أي : قادرون على أهبة الخروج معك وقوله تعالى : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) استئناف كأنه قيل : ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء فقيل : رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف وهم النساء والصبيان (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) فلأجل ذلك الطبع قال الله تعالى : (فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي : ما في الجهاد من منافع الدارين ، أمّا في الدنيا فالفوز بالغنيمة والظفر بالعدو ، وأمّا في الآخرة فالثواب والنعيم الدائم الذي لا ينقطع.
(يَعْتَذِرُونَ) أي : هؤلاء المنافقون (إِلَيْكُمْ) أي : في التخلف (إِذا رَجَعْتُمْ) من الغزو (إِلَيْهِمْ) بالأعذار الباطلة والخطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيما له ويحتمل أن يكون له وللمؤمنين.
يروى أن الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من المنافقين كانوا بضعة وثلاثين رجلا فلما رجع النبيّ صلىاللهعليهوسلم جاؤوا يعتذرون إليه بالباطل قال تعالى : (قُلْ) لهم يا محمد (لا تَعْتَذِرُوا) بالمعاذير الباطلة (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) أي : لن نصدّقكم فيما اعتذرتم به وقوله تعالى : (قَدْ نَبَّأَنَا) أي : أعلمنا (اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) أي : بعض أحوالكم التي أنتم عليها من الشرّ والفساد علة لانتفاء تصديقهم لأنّ الله
__________________
(١) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة ٥ / ٣١٨ ، والسيوطي في الدر المنثور ٣ / ٢٦٨ ، ٦ / ١٢٨.