وضع هذا الظاهر مكانه تعميما وتعليقا للحكم بالوصف (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) أي : دلائل توحيده فكفر بها كما فعلتم أنتم ، وذلك من أعظم الكذب ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ) أي : الشأن (لا يُفْلِحُ) بوجه من الوجوه (الْمُجْرِمُونَ) أي : المشركون تأكيد لما سبق من هذين الوصفين
(وَيَعْبُدُونَ) أي : هؤلاء المشركون (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : غيره (ما لا يَضُرُّهُمْ) أي : إن لم يعبدوه (وَلا يَنْفَعُهُمْ) أي : إن عبدوه ، وهو الأصنام ؛ لأنها حجارة وجماد لا تضرّ ولا تنفع ، والكافرون قادرون على التصرف فيها تارة بالإصلاح وتارة بالإفساد ، وإذا كان العابد أصلح حالا من المعبود كانت العبادة باطلة ؛ لأنّ العبادة أعظم أنواع التعظيم ، فلا تليق إلا بمن يضرّ وينفع ، بأن يثيب على الطاعة ، ويعاقب على المعصية ، وكان أهل الطائف يعبدون اللات ، وأهل مكة يعبدون العزى ومناة وهبل وإسافا ونائلة. (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ) أي : الأصنام التي نعبدها. (شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) ونظيره قوله تعالى إخبارا عنهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر ، ٣]. وقيل : إنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم ، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر يكونون شفعاء لهم عند الله. قال الرازي : ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله. اه. ولكن تعظيمهم لهؤلاء ليس كتعظيم الكفار ، وفي هذه الشفاعة قولان :
أحدهما : أنهم يزعمون أنها تشفع لهم فيما يهمهم من أمور الدنيا في إصلاح معايشهم. قاله الحسن ؛ لأنهم كانوا لا يعتقدون بعث الموتى.
والثاني : أنهم يزعمون أنها تشفع لهم في الآخرة إن يكن بعث ، قاله ابن جريج عن ابن عباس ، وكأنهم كانوا شاكين فيه ، وهذا من فرط جهالتهم حيث تركوا عبادة موجدهم الضارّ النافع إلى عبادة ما يعلم قطعا أنه لا يضرّ ولا ينفع ، على توّهم أنه ربما يشفع لهم. قال النضر بن الحارث : إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى. وقوله تعالى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين (أَتُنَبِّئُونَ) أي : تخبرون (اللهِ) وهو العالم بكل شيء المحيط بكل محيط. (بِما لا يَعْلَمُ) أي : لا يوجد له به علم في وقت من الأوقات ، استفهام إنكار تهكم بهم ، وبما ادّعوه ومن المحال الذي هو شفاعة الأصنام ، وإعلام بأن الذي أنبؤوا به باطل غير منطو تحت الصحة ، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه. وقوله تعالى : (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) تأكيد لنفيه ؛ لأنّ ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم ، وهذا على طريق الإلزام ، والمقصود نفي علم الله بذلك الشفيع ، وأنه لا وجود له ألبتة ؛ لأنه لو كان موجودا لكان معلوما لله تعالى وحيث لم يكن معلوما لله تعالى ، وجب أن لا يكون معلوما موجودا ، وهذا مثل مشهور في العرب ، فإنّ الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه يقول : ما علم الله ذلك مني ؛ ومقصوده أنه ما حصل ذلك الشيء منه قط ولا وقع. (سُبْحانَهُ) أي : تنزيها له عن كل شيء فيه شائبة نقص. (وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ما مصدرية أو موصولة ، أي : عن إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم به. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب ، لقوله : (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ) والباقون بالياء على الغيبة ، فكأنه قيل للنبيّ صلىاللهعليهوسلم قل أنت : سبحانه وتعالى عما يشركون ، ويجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى هو الذي نزه نفسه عما قالوه ، فقال : سبحانه وتعالى عما يشركون. ولما أقام تعالى الدلالة القاهرة على فساد القول بعبادة الأصنام بيّن السبب في كيفية حدوث هذا المذهب الفاسد بقوله : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً)