وإيذاء الناس من غير ذنب لا سيما ويعلم أنه إذا حبس أخاه عنده بهذه التهمة فإنه يعظم حزن أبيه ويشتد غمه ، فكيف يليق بالرسول المعصوم المبالغة في التزوير إلى هذا الحد؟ أجيب : بأجوبة كثيرة للعلماء ، وأحسنها أنه إنما فعل ذلك بأمر من الله تعالى له لا عن أمره وإنما أمره الله تعالى بذلك ليزيد بلاء يعقوب عليهالسلام ، فيضاعف له الأجر على البلاء ويلحقه بدرجة آبائه ، ولله تعالى أسرار لا يعلمها أحد من خلقه ، وهو المتصرف في خلقه بما يشاء ، فهو الذي أخفى خبر يوسف عن يعقوب في هذه المدة مع قرب المسافة لما يريد أن يدبره فيهم ، والله أعلم بأحوال عباده.
ثم قال كبيرهم : (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ) دوني (فَقُولُوا) له ، أي : متلطفين في خطابكم (يا أَبانا) وأكدوا مقالتكم فإنه ينكرها وقولوا : (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) فإن قيل : كيف يحكمون عليه بأنه سرق من غير بينة وهو قد أجابهم بالجواب الشافي ، فقال : الذي جعل الصاع في رحلي هو الذي جعل البضاعة في رحالكم؟ أجيب : بأنهم لما شاهدوا الصاع وقد أخرج من متاعه غلب على ظنهم أنه سرق فلذلك نسبوه إلى السرقة في ظاهر الأمر لا في حقيقة الحال ، ويدل على أنهم لم يقطعوا عليه بالسرقة قولهم : (وَما شَهِدْنا) عليه (إِلَّا بِما عَلِمْنا) ظاهرا من رؤيتنا الصاع يخرج من وعائه ، وأما قوله : وضع الصاع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم ، فالفرق ظاهر ؛ لأن هناك لما رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم ، وأما هذا الصاع فإن أحدا لم يعترف بأنه هو الذي وضع الصاع في رحله ، فلهذا السبب غلب على ظنهم أنه سرق ، فشهدوا بناء على الظن (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ ،) أي : ما غاب عنا حين أعطينا الموثق (حافِظِينَ ،) أي : ما كنا نعلم أن ابنك يسرق ، ويصير أمرنا إلى هذا ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به معنا ، وإنما قلنا : ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه سبيل ، وحقيقة الحال غير معلومة لنا ، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى ، فلعل الصاع دس في رحله ، ونحن لا نعلم ذلك ، فلعل حيلة دبرت في ذلك غاب عنا علمها كما صنع في رد بضاعتنا.
(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أي : أهلها على حذف المضاف ، وهو مجاز مشهور ، وقيل : إنه مجاز لكنه من باب إطلاق المحل وإرادة الحال (الَّتِي كُنَّا فِيها) وهي مصر عما أخبرناك به يخبروك بصدقنا ، فإن الأمر قد اشتهر عندهم ، وقيل : هي قرية من قرى مصر كانوا ارتحلوا منها إلى مصر (وَ) اسأل (الْعِيرَ ،) أي : القافلة ، وهم قوم من كنعان جيران يعقوب عليهالسلام (الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) والسؤال طلب الأخبار بأداته من الهمزة ، أو هل أو غيرهما ، والقرية الأرض الجامعة لحدود فاصلة وأصلها من قريت الماء جمعته ، والعير قافلة الحمير من العير بالفتح وهو الحمار هذا هو الأصل ثم كثر حتى استعمل في غير الحمير ، ولما كان ذلك بالإنكار لما يتحقق من كرم أخيهم أكدوه بقولهم : (وَإِنَّا ،) أي : والله إنا (لَصادِقُونَ) في أقوالنا.
ولما رجعوا إلى أبيهم وقالوا له ما قال كبيرهم ، فكأنه قيل : فما قال لهم؟ فقيل : (قالَ) لهم (بَلْ سَوَّلَتْ ،) أي : زينت تزيينا فيه غي (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ،) أي : حدّثتكم بأمر ففعلتموه ، وإلا فما أدرى الملك أن السارق يؤخذ بسرقته (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ،) أي : فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل صبري ، أو أجمل ، وقدم مثل ذلك في واقعة يوسف إلا أنه قال فيها : (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) [يوسف ، ١٨] وقال هنا (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ ،) أي : بيوسف وشقيقه بنيامين والأخ الثالث الذي أقام بمصر (جَمِيعاً ،) أي : فلا يتخلف منهم أحد ، وإنما قال يعقوب عليهالسلام