هذه المقالة ؛ لأنه لما طال حزنه واشتدّ بلاؤه ومحنته علم أن الله تعالى سيجعل له فرجا ومخرجا عن قريب ، فقال ذلك على سبيل حسن الظن بالله تعالى وتفرس أن هذه الأفعال نشأت عن يوسف عليهالسلام ، وأن الأمر يرجع إلى سلامة واجتماع ، ثم علل هذا بقوله : (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ ،) أي : البليغ العلم بما خفي عنا من ذلك فيعلم أسبابه الموصلة إلى المقاصد (الْحَكِيمُ ،) أي : البليغ فيما يدبره ويقضيه.
(وَ) لما ضاق قلب يعقوب عليهالسلام بسبب الكلام الذي سمعه من أبنائه في حق بنيامين (تَوَلَّى عَنْهُمْ ،) أي : انصرف بوجهه عنهم لما توالى عنده من الحزن (وَقالَ يا أَسَفى) أي : يا أسفي (عَلى يُوسُفَ ،) أي : تعال هذا أوانك ، والأسف اشدّ الحزن والحسرة ، والألف بدل من ياء المتكلم ، وإنما تأسف على يوسف دون أخويه ، والحادث إنما هو مصيبتهما ؛ لأن مصيبته كانت قاعدة المصائب ، والحزن القديم إذا صادفه حزن آخر كان ذلك أوجع للقلب وأعظم لهيجان الحزن الأوّل ، كما قال متمم بن نويرة لما رأى قبرا جديدا جدّد حزنه على أخيه مالك (١) :
فقالوا أتبكي كل قبر رأيته |
|
لقبر ثوى بين اللوى والدكادك؟ |
فقلت نعم إنّ الأسى يبعث الأسى |
|
فدعني فهذا كله قبر مالك |
ولأنه كان واثقا بحياتهما دون حياته ، وفي حديث رواه الطبراني «لم تعط أمة من الأمم إنا لله وإنا إليه راجعون عند المصيبة إلا أمّة محمد صلىاللهعليهوسلم» (٢) ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع ، وقال (يا أَسَفى وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ ،) أي : انمحق سوادهما وبدل بياضا (مِنَ الْحُزْنِ ،) أي : من كثرة البكاء عليه ، وقيل : عند غلبة البكاء يكثر الماء في العين فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء ، وقيل : ضعف بصره حتى صار يدرك إدراكا لطيفا ، وقيل : عمي ، وقال مقاتل : لم يبصر بهما ست سنين حتى كشفه الله تعالى بقميص يوسف عليهالسلام. قيل : إن جبريل عليهالسلام دخل على يوسف في السجن ، فقال : إنّ بصر أبيك ذهب من الحزن عليك ، فوضع يده على رأسه وقال : ليت أمي لم تلدني ، ولم أكن حزنا على أبي.
فإن قيل : هذا إظهار للجزع وجار مجرى الشكاية وهو لا يليق بمثل يعقوب عليهالسلام أجيب : بأنه لم يذكر إلا هذه الكلمة ، ثم عظم بكاؤه ، ثم أمسك لسانه عن النياحة ، وذكر ما لا ينبغي ، ولم يظهر الشكاية مع أحد من الخلق ويدل لذلك قوله : (فَهُوَ كَظِيمٌ ،) أي : مغموم مكروب لا يظهر كربه وقوله : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) [يوسف ، ٨٦] فكل ذلك يدل على أنه لما عظمت مصيبته وقويت محنته صبر وتجرع الغصة وما أظهر الشكاية به ، فلا جرم استوجب به المدح العظيم والثناء الجزيل. روي أن يوسف عليهالسلام قال لجبريل عليهالسلام : هل لك علم بيعقوب؟ قال : نعم. قال : فكيف حزنه؟ قال : حزن سبعين ثكلى ، وهي التي لها ولد واحد يموت. قال : فهل له أجر؟ قال : نعم أجر مئة شهيد ، ولعل أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد وأيضا البكاء مباح فقد بكى رسول الله صلىاللهعليهوسلم على ولده إبراهيم وقال :
__________________
(١) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان متمم بن نويرة ص ١٢٩ ، وديوان الحماسة ١ / ٣٣١.
(٢) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ٢٥٤.