«القلب يحزن والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون» (١). رواه الشيخان.
تنبيه : شرف الإنسان باللسان والعين والقلب فبين تعالى أن هذه الثلاثة كانت غريقة في الغم ، فاللسان كان مشغولا بقوله : يا أسفا ، والعين بالبكاء والبياض ، والقلب بالغم الشديد ، أي : الذي يشبه الوعاء المملوء الذي سد فلا يمكن خروج الماء منه ، وهذا مبالغة في وصف ذلك الغم.
ولما وقع من يعقوب عليهالسلام ذلك كأن قائلا يقول : فما قال له أولاده؟ فقيل : (قالُوا) له حنقا من ذلك (تَاللهِ تَفْتَؤُا ،) أي : لا تفتأ ، أي : لا تزال (تَذْكُرُ يُوسُفَ) تفجعا ، فتفتأ جواب القسم وهو على حذف لا كقول الشاعر (٢) :
فقلت يمين الله أبرح قاعدا |
|
ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي |
ويدل على حذفها أنه لو كان مثبتا لاقترن بلام الابتداء ونون التوكيد معا عند البصريين أو أحدهما عند الكوفيين ، فتفتأ هنا ناقصة بمعنى لا تزال كما تقرّر ، ورسمت تفتؤ بالواو (حَتَّى) إلى أن (تَكُونَ حَرَضاً ،) أي : مشرفا على الهلاك لطول مرضك وهو مصدر يستوي فيه الواحد وغيره (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ ،) أي : الموتى.
فإن قيل : لما حلفوا على ذلك مع أنهم لم يعلموا ذلك قطعا؟ أجيب : بأنهم بنوا الأمر على الظاهر ، قال أكثر المفسرين : قائل هذا الكلام هم إخوة يوسف ، وقال بعضهم : ليس الإخوة بل الجماعة الذين كانوا في الدار من أولاده وخدمه.
ولما قالوا له ذلك فكأن قائلا يقول : فما قال لهم؟ فقيل : (قالَ) لهم (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) والبث أشد الحزن سمي بذلك ؛ لأنه من صعوبته لا يطاق حمله فيباح به وينشر (وَحُزْنِي) مطلقا وإن كان سببه خفيفا يقدر الخلق على إزالته (إِلَى اللهِ) المحيط بكل شيء علما وقدرة لا إلى غيره ، فهو الذي تنفع الشكوى إليه (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ،) أي : الملك الأعلى من اللطف بنا أهل البيت (ما لا تَعْلَمُونَ) فيأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب ، وفي ذلك إشارة إلى أنه كان يعلم حياة يوسف ، ويتوقع رجوعه إليه وذكروا لسبب هذا التوقع أمورا :
أحدها : أنّ ملك الموت أتاه فقال له : يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال : لا يا نبي الله ، ثم أشار إلى جانب مصر وقال : اطلبه من ههنا ولذلك قال : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا ،) أي : والتحسيس طلب الخبر بالحاسة وهو قريب من التجسيس بالجيم ، وقيل : التحسيس بالحاء يكون في الخير ، وبالجيم يكون في الشرّ ومنه الجاسوس وهو الذي يطلب الكشف عن عورة الناس ، والمعنى : تحسسوا خبرا (مِنْ) أخبار (يُوسُفَ وَأَخِيهِ ،) أي : اطلبوا خبرهما.
وثانيها : أنه علم أنّ رؤيا يوسف عليهالسلام صادقة ؛ لأنّ أمارات الرشد والكمال ظاهرة في
__________________
(١) أخرجه البخاري في الجنائز حديث ١٣٠٣ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٣١٥ ، وأبو داود في الجنائز حديث ٣١٢٦ ، وابن ماجه في الجنائز حديث ١٥٨٩.
(٢) البيت من الطويل ، وهو لامرئ القيس في ديوانه ص ٣٢ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٣٨ ، ٢٣٩ ، والخصائص ٢ / ٢٨٤ ، والدرر ٤ / ٢١٢ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٢٠ ، وشرح التصريح ١ / ١٨٥ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٤١ ، والكتاب ٣ / ٥٠٤ ، ولسان العرب (يمن).