المزجاة القليلة ، واختلفوا في تلك الرداءة. فقال ابن عباس : كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام ، وقيل : متاع الأعراب الصوف والسمن ، وقيل : الأقط ، وقيل : النعال والأدم وقيل : إنّ دراهم مصر كان ينقش فيها صورة يوسف عليهالسلام ، والدراهم التي جاؤوا بها ما كان فيها ذلك فما كانت مقبولة عند الناس ، ثم سببوا عن هذا الاعتذار ؛ لأنه أقرب إلى رحمة أهل الكرم قولهم : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ،) أي : شفقة علينا بسبب ضعفنا (وَتَصَدَّقْ ،) أي : تفضل (عَلَيْنا) زيادة على الوفاء كما عودتنا بفضل ترجو ثوابه ، ولما رأوا أفعاله تدل على تمسكه بدين الله تعالى عللوا ذلك بقولهم : (إِنَّ اللهَ ،) أي : الذي له الكمال كله (يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ،) أي : وإن كانت على غني قوي ، فكيف إذا كانت على أهل الحاجة والضعف.
فائدة : سئل سفيان بن عيينة هل حرمت الصدقة على نبي من الأنبياء سوى نبينا عليه وعليهم الصلاة والسّلام؟ قال سفيان : ألم تسمع قوله : (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ..) الآية يريد أن الصدقة كانت حلالا لهم ولأبيهم. وروي أنّ الحسن سمع رجلا يقول : اللهم تصدّق عليّ قال : إنّ الله لا يتصدّق وإنما يتصدّق من يبغي الثواب قل : اللهم أعطني وتفضل عليّ.
فإن قيل : إذا كان أبوهم أمرهم أن يتحسسوا من يوسف وأخيه فلم عادوا إلى الشكوى؟ أجيب : بأن المتحسس يتوصل إلى مطلوبه بجميع الطرق والاعتراف بالعجز ، وضموا رقة الحال وقلة المال وشدّة الحاجة ، وذلك مما يرقق القلب فقالوا : نجربه في هذه الأمور ، فإن رق قلبه لنا ذكرنا له المقصود وإلا سكتنا ، فقدّموا هذه المقدّمة قال أبو إسحاق : ذكر لي أنهم لما كلموه بهذا الكلام أدركته الرقة على إخوته فارفض دمعه فباح بالذي كان يكتم فلهذا.
(قالَ) لهم (هَلْ عَلِمْتُمْ) مقرّرا لهم بعد أن استأنسوا به ، قال البقاعي : والظاهر أن هذا كان بغير ترجمان (ما ،) أي : قبح الذي (فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ ،) أي : أخيكم الذي حلتم بينه وبين أبيه (وَأَخِيهِ) في جعلكم أباه فريدا منه ذليلا بينكم ، ثم في قولكم له لما وجد الصاع في رحله : لا يزال يأتينا البلاء من قبلكم يا بني راحيل ، وإنما قال لهم ذلك نصحا لهم وتحريضا على التوبة وشفقة عليهم لما رأي من عجزهم وتمسكنهم لا معاتبة وتثريبا ، وقيل : أعطوه كتاب يعقوب عليهالسلام في تخليص بنيامين ، وذكروا له ما هو فيه من الحزن على فقد يوسف وأخيه ، فقال لهم ذلك وقوله : (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ،) أي : فاعلون فعلهم ؛ أو لأنهم كانوا حينئذ صبيانا طياشين تلويحا إلى معرفته ، فقد روي أنه لما قال هذا تبسم وكان في تبسمه أمر من الحسن لا يجهله منه من رآه ولو مرّة واحدة فعرفوه بذلك فلذلك. (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) استفهام تقرير ، ولذلك حقق بأن واللام عليه ، وقيل : عرفوه بنظره وخلقه حين كلمهم ، وقيل : رفع التاج عن رأسه فرآوا علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء ، وكان لسارة ويعقوب وإسحاق مثلها. وقرأ ابن كثير بهمزة مكسورة بعدها نون على الخبر ، وقرأ قالون وأبو عمرو بهمزة مفتوحة بعدها همزة مكسورة مسهلة بينهما ألف على الاستفهام ، وقرأ ورش بغير ألف بينهما ، والتسهيل في الثانية على الاستفهام أيضا ، وقرأ الباقون بتحقيق الهمزتين مع القصر ، ولهشام وجه ثان وهو المدّ ، وقيل : إنهم لم يعرفوه حتى (قالَ) لهم (أَنَا يُوسُفُ) وزادهم بقوله : (وَهذا أَخِي) بنيامين شقيقي ، وإنما ذكره لهم ليزيدهم ذلك معرفة له وتثبيتا في أمره وليبني عليه قوله : (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) قال ابن عباس : بكل خير في الدنيا والآخرة. وقال آخرون :