الظهور يقال : بدا يبدو إذا سكن في البادية ، يروى عن عمر : إذا بدونا جفونا ، أي : تخلقنا بأخلاق البدويين قال الواحدي : البدو بسط من الأرض يظهر فيه الشخص من بعيد ، وأصله من بدا يبدو بدوا ، ثم سمي المكان باسم المصدر ، وفي الآية دلالة على أن فعل العبد خلق الله تعالى ؛ لأنه أضاف إخراجه من السجن إلى الله تعالى ومجيئهم من البدو إليه (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ) أي : أفسد (الشَّيْطانُ) بسبب الحسد (بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) وأصل النزع دخول في أمر لإفساده.
فإن قيل : إضافة يوسف عليهالسلام الخير إلى الله تعالى والشر إلى الشيطان تقتضي أن فعل الشر ليس من الله تعالى كما قاله بعض المبتدعة ، ولو كان منه لأضافه إليه.
أجيب : بأنّ إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مجاز ؛ لأنّ الفاعل المطلق هو الله تعالى في الحقيقة ، قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء ، ٢٢] فثبت بذلك أنّ الكل من عند الله تعالى وبقضائه وقدره ، وليس للشيطان فيه مدخل إلا بإلقاء الوسوسة والتحريش لإفساد ذات البين ، وذلك بإقدار الله تعالى إياه على ذلك كما حكى الله تعالى ذلك عنه بقوله تعالى : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم ، ٢٢] ولما كان حصول الاجتماع بينه وبين إخوته وأبويه مع الألفة والمحبة وطيب العيش وفراغ البال ، وكان في غاية البعد عن العقول إلا أنه تعالى لطيف قال يوسف عليهالسلام (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ ،) أي : لطيف التدبير له إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته ، ويتسهل دونها فإذا أراد حصول الشيء سهل أسبابه فحصل ، وإن كان في غاية البعد عن الحصول (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بوجوه المصالح والتدابير (الْحَكِيمُ ،) أي : الذي يفعل كل شيء في وقته وعلى وجه يقتضي الحكمة روي أنّ يوسف عليهالسلام طاف بأبيه في خزائنه ، فلما أدخله خزانة القرطاس قال : يا بنيّ ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل؟ قال : أمرني جبريل بذلك قال : أو ما تسأله؟ قال : أنت أقرب مني إليه ، فسأله فقال جبريل : الله أمرني بذلك لقولك وأخاف أن يأكله الذئب ، قال : فهلا خفتني؟ ولما حضر يعقوب عليهالسلام الموت وصى يوسف عليهالسلام أن يحمله ويدفنه عند أبيه فمضى بنفسه فدفنه ثمة. ثم عاد إلى مصر وأقام بعده ثلاثا وعشرين سنة.
ولما تم أمره وعلم أنه لا يدوم تاقت نفسه إلى الملك الدائم فقال : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي) وافتتح بقد ؛ لأنّ الحال حال توقع السامع لشرح حال الرؤيا (مِنَ الْمُلْكِ ،) أي : بعضه بعد بعدي منه جدّا وهو ملك مصر (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ ،) أي : بعض (تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) طبق ما بشرني به أبي وأخبرت به أنت من التمكين والتعليم قبل قولك (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) [يوسف ، ٢١] ثم ناداه بوصف جامع للعلم والحكمة فقال : (فاطِرَ ،) أي : خالق (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ثم أعلمه بما هو أعلم به منه من أنه لا يعوّل على غيره في شيء من الأشياء (أَنْتَ وَلِيِّي ،) أي : الأقرب إليّ باطنا وظاهرا (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ،) أي : لا وليّ لي غيرك ، والولي يفعل لموليه الأصلح والأحسن فأحسن لي في الآخرة أعظم مما أحسنت لي في الدنيا.
روي أنه صلىاللهعليهوسلم حكى عن جبريل عن رب العزة جل وعلا أنه قال : «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» (١) فلهذا المعنى من أراد الدعاء لا بدّ وأن يقدّم عليه ذكر الثناء
__________________
(١) أخرجه الترمذي حديث ٢٩٢٦ ، وابن حجر في فتح الباري ١١ / ١٤٧ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٤ / ٣٧٥ ، ٥ / ٧.