على الله تعالى فهذا يوسف عليهالسلام لما أراد أن يذكر الدعاء قدم عليه الثناء وهو قوله : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ثم ذكر عقبه الدعاء وهو قوله : (تَوَفَّنِي ،) أي : اقبض روحي وافيا تامّا في جميع أمري حسا ومعنى حال كوني (مُسْلِماً) ولما كان المسلم حقيقة من كان عريقا في الإخلاص عقبه بقوله : (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ونظيره ما فعله الخليل عليهالسلام في قوله : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء ، ٧٨] فمن ههنا إلى قوله : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) ثناء على الله تعالى ثم قوله : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) إلى آخر الكلام دعاء فكذا هنا.
تنبيه : اختلف في قوله (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) هل هو طلب منه للوفاة أم لا؟ فقال قتادة : سأل ربه اللحوق به ولم يتمنّ نبيّ قط الموت قبله ، وكثير من المفسرين على هذا القول. وقال ابن عباس في رواية عطاء : يريد إذا توفيتني فتوفني على الإسلام ، فهذا طلب لأن يجعل الله تعالى وفاته على الإسلام ، وليس فيه ما يدل على أنه طلب الوفاة ، واللفظ صالح للأمرين ، ولا يبعد في الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت وتعظم رغبته فيه لوجوه كثيرة منها : أنّ الخطباء والبلغاء وإن أطنبوا في مذمّة الدنيا إلا أنّ حاصل كلامهم يرجع إلى ثلاثة أمور :
أحدها : أنّ هذه السعادات سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشدّ من اللذة الحاصلة عند وجدانها.
وثانيها : أنها غير حاصلة بل هي ممزوجة بالمنغصات والمكدّرات.
وثالثها : أنّ الأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها ، بل ربما كان حصة الأراذل أعظم بكثير من حصة الأفاضل ، فهذه الجهات الثلاثة منفرة عن هذه اللذات ، ولما عرف العاقل أنه لا يحصل تحصيل هذه اللذات إلا مع هذه الجهات الثلاثة المنفرة لا جرم تمني الموت ليتخلص عن هذه الآفات ، ومنها : أن تداخل اللذات الدنيوية قليلة وهي ثلاثة أنواع : لذة الأكل ولذة النكاح ولذة الرياسة ، ولكل واحدة منها عيوب كثيرة ، أمّا لذة الأكل ففيها عيوب أحدها : أنّ هذه اللذة ليست لذة قوية ، فإنه لا يمكن إبقاؤها ، فإنّ الإنسان إذا أكل وشبع لم يبق فيه الالتذاذ ، بالأكل ، فهذه اللذة ضعيفة ، ومع ضعفها غير باقية. وثانيها : أنها في نفسها خسيسة وأنّ الأكل عبارة عن ترطيب ذلك الطعام بالبزاق المجتمع في الفم ، ولا شك أنه شيء منفر ، ولما يصل إلى المعدة يظهر فيه الاستحالة إلى الفساد والنتن والعفونة ، وذلك أيضا منفر ، وثالثها : أنّ جميع الحيوانات الخسيسة مشاركة له فيها ، ورابعها : أنّ الأكل إنما يطيب عند اشتداد الجوع ، والجوع نقص وآفة ، وخامسها : أنّ الأكل مستحقر عند العقلاء حتى قيل : من كانت همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه ، فهذه إشارات مختصرة إلى معايب الأكل ، وأمّا لذة النكاح فما ذكر في الأكل حاصل هنا مع أشياء أخر ، وهي أنّ النكاح سبب لحصول الولد ، وحينئذ تكثير الأشخاص فتكثر الحاجات إلى المال ، فيحتاج الإنسان بسببها إلى الاحتيال في المال بطرق لا نهاية لها ، وربما صار هالكا بسبب طلب المال.
وأمّا لذة الرياسة فعيوبها كثيرة منها : أن يكون على شرف الزوال في كل حين وأوان ، ومنها : أنه عند حصولها في الخوف الشديد من الزوال ، ومنها أنه يكون عند زوالها في الأسف العظيم والحزن الشديد بسبب ذلك الزوال ، فالعاقل إذا تأمّل في هذه المعاني علم قطعا أنه لا صلاح له في