(ذلِكَ ،) أي : الذي ذكرته لك يا محمد من قصة يوسف عليهالسلام وما جرى له مع إخوته ، ثم صار إلى الملك بعد الرق (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ ،) أي : أخبار ما غاب عنك (نُوحِيهِ إِلَيْكَ ،) أي : الذي أخبرناك به من أخبار يوسف وحي أوحيناه إليك (وَ) الحال أنك (ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ ،) أي : عند إخوة يوسف عليهالسلام (إِذْ ،) أي : حين (أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ ،) أي : عزموا على أمر واحد ، وهو إلقاء يوسف في الجب (وَهُمْ يَمْكُرُونَ ،) أي : يدبرون الأذى في الخفية بيوسف ، والمعنى : أنّ هذا النبأ غيب ؛ لأنه صلىاللهعليهوسلم ما طالع الكتب ولا تتلمذ لأحد ، ولا كانت البلدة بلدة العلماء ، وإتيانه صلىاللهعليهوسلم بهذه القصة الطويلة على وجه لا يقع فيه تحريف ولا غلط من غير مطالعة ولا تعلم ، ومن غير أن يقال : إنه حاضر معهم لا بدّ وأن يكون معجزا وقوله تعالى : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) ذكر على سبيل التهكم بهم ؛ لأنّ كل أحد يعلم أنّ محمدا صلىاللهعليهوسلم ما كان معهم ، ولما سألت قريش واليهود رسول الله صلىاللهعليهوسلم كما نقله أبو حيان عن ابن الأنباري عن قصة يوسف عليهالسلام ، فنزلت مشروحة هذا الشرح الشافي مبينة هذا البيان الوافي فأمّل صلىاللهعليهوسلم أن يكون ذلك سبب إسلامهم فخالفوا تأميله عزاه الله تعالى بقوله : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ ،) أي : أهل مكة (وَلَوْ حَرَصْتَ) على إيمانهم (بِمُؤْمِنِينَ) لعنادهم وتصميمهم على الكفر وكان ذلك إشارة إلى ما ذكر الله تعالى في قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص ، ٥٦].
ثم نفى عنه التهمة بقوله تعالى : (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ) أي : على تبليغ هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك وأغرق في النفي فقال : (مِنْ أَجْرٍ) حتى يكون سؤالك سببا لأن يتهموك أو يقولوا : لو لا أنزل عليه كنز ليستغني به عن سؤالنا ، ثم نفى عن هذا الكتاب كل غرض دنيوي بقوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ ،) أي : عظة من الله تعالى (لِلْعالَمِينَ) عامّة.
ثم إنّ الله تعالى أخبر عنهم أنهم لما تأمّلوا الآيات الدالة على توحيده تعالى بقوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ ،) أي : وكم (مِنْ آيَةٍ) دالة على وحدانية الله تعالى (فِي السَّماواتِ) كالنيرين وسائر الكواكب والسحاب وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى (وَالْأَرْضِ) من الجبال والشجر والدوابّ وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى (يَمُرُّونَ عَلَيْها ،) أي : يشاهدونها (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ ،) أي : لا يتفكرون فيها فلا عجب إذا لم يتأمّلوا في الدلائل على نبوّتك ، فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد والقدرة والحكمة ، ثم إنهم يمرّون عليها ولا يلتفتون إليها.
ولما كان ربما قيل : كيف يوصفون بالإعراض وهم يعتقدون أنّ الله تعالى فاعل تلك الآيات؟ بين أنّ إشراكهم سقط لذلك بقوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) حيث يقرّون بأنه الخالق الرازق (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) بعبادته الأصنام قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف ، ٨٧] لكنهم كانوا يثبتون شريكا في العبودية. وعن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في تلبية مشركي العرب كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك يعنون الأصنام. وعنه أيضا أنّ أهل مكة قالوا : الله ربنا وحده لا شريك له والملائكة بناته فلم يوحدوا بل أشركوا ، وقال عبدة الأصنام : ربنا الله وحده والأصنام شفعاؤنا عنده ، وقالت اليهود : ربنا الله وحده وعزير ابن الله. وقالت النصارى : المسيح ابن الله. وقال عبدة الشمس والقمر : ربنا الله وحده وهؤلاء أربابنا ، وقال المهاجرون والأنصار : ربنا الله وحده لا شريك له.
ولما كان أكثر لا ينقادون إلا بالعذاب قال تعالى : (أَفَأَمِنُوا) إنكار فيه معنى التوبيخ