والتهديد (أَنْ تَأْتِيَهُمْ) في الدنيا (غاشِيَةٌ ،) أي : نقمة تغشاهم وتشملهم (مِنْ عَذابِ اللهِ ،) أي : الذي له الأمر كله كما أتى من ذكرنا قصصهم من الأمم (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً ،) أي : فجأة وهم عنها في غاية الغفلة وقوله تعالى : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ،) أي : بوقت إتيانها قبله كالتأكيد لقوله : (بَغْتَةً.)
ولما كان صلىاللهعليهوسلم مبلغا عن الله تعالى أمره أن يأمرهم باتباعه بقوله تعالى : (قُلْ) يا أعلى الخلق وأصفاهم وأعظمهم نصحا وإخلاصا (هذِهِ ،) أي : الدعوة إلى الله تعالى التي أدعو إليها (سَبِيلِي ،) أي : طريقتي التي أدعو إليها الناس ، وهي توحيد الله تعالى ودين الإسلام وسمى الدين سبيلا ؛ لأنه الطريق المؤدّي إلى ثواب الجنة (أَدْعُوا إِلَى اللهِ ،) أي : إلى توحيده والإيمان به (عَلى بَصِيرَةٍ ،) أي : حجة واضحة وقوله : (أَنَا) تأكيد للمستتر في أدعو على بصيرة ؛ لأنه حال منه أو مبتدأ خبره على بصيرة وقوله : (وَمَنِ اتَّبَعَنِي ،) أي : ممن آمن بي وصدق بما جاءني عطف عليه ؛ لأنّ كل من ذكر الحجة وأجاب عن الشبهة فقد دعا بمقدور وسعه إلى الله ، وهذا دلّ على أن الدعاء إلى الله إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط وهو أن يكون على بصيرة مما يقول ويقين ، فإن لم يكن كذلك وإلا فهو محض الغرور ، وقال صلىاللهعليهوسلم : «العلماء أمناء الرسل على عباد الله» (١) من حيث يحفظون ما يدعون إليه.
فائدة : جميع القراء يثبتون الياء وقفا ووصلا لثباتها في الرسم (وَسُبْحانَ ،) أي : وقل سبحان (اللهِ) تنزيها له تعالى عما يشركون به (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ،) أي : الذين اتخذوا مع الله ضدّا وندّا.
ولما قال أهل مكة للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : هلا بعث الله ملكا؟ قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) إلى المكلفين (إِلَّا رِجالاً ،) أي : مثل ما أنك رجل لا ملائكة ولا إناثا كما قاله ابن عباس ، ولا من الجنّ كما قاله الحسن ، (نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي : بواسطة الملائكة مثل ما يوحى إليك. وقرأ حفص قبل الواو بالنون وكسر الحاء ، والباقون بالياء وفتح الحاء وضم الهاء من إليهم حمزة على أصله ، وكسرها الباقون (مِنْ أَهْلِ الْقُرى ،) أي : من أهل الأمصار والمدن المبنية بالمدر والحجر ونحوه لا من أهل البوادي ؛ لأنّ أهل الأمصار أفضل وأعلم وأكمل وأعقل من أهل البوادي ، ومكة أم القرى ؛ لأنها مجمع لجميع الخلائق لما أمروا به من حج البيت وكان العرب كلهم يأتونها فكيف تعجبوا في حقك؟ قال الحسن : لم يبعث الله نبيا من البادية لغلظهم وجفائهم ، ثم هدّدهم سبحانه وتعالى بقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا ،) أي : هؤلاء المشركون المكذبون (فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من المكذبين للرسل والآيات فيحذروا تكذيبك ويعتبروا بهم وبما حلّ بهم من عذابنا.
ولما أنّ الله تعالى نجى المؤمنين عند نزول العذاب بالأمم الماضية المكذبة وما في الآخرة خير لهم بين ذلك بقوله تعالى : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ ،) أي : ولدار الحال الآخرة أو الساعة الآخرة أو الحياة الآخرة (خَيْرٌ) وهي الجنة (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الله من حياة مآلها الموت ، وإن فرحوا فيها بالمحال وإن امتدّت ألف عام وكان عيشها كله رغدا من غير آلام (أَفَلا يَعْقِلُونَ) فيستعملون
__________________
(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١ / ٣٨٨ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢٨٩٥٢ ، ٢٩٠٨٣ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١٣٢.