يعتاد مجيء الموج منه فأرجف قلوبهم. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي : فظنوا أنّ الهلاك قد أحاط بهم وسدت عليهم مسالك الخلاص ، كمن أحاط بهم العدوّ (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ) أي : من غير اشتراك به (لَهُ الدِّينَ) أي : الدعاء ؛ لأنهم لا يدعون حينئذ غيره ؛ لأنّ الإنسان في هذه الحالة لا يطمع إلا في فضل الله ورحمته ويصير منقطعا عن جميع الخلق ، ويصير بقلبه وروحه وجميع أجزائه متضرعا إلى الله تعالى. وقوله تعالى : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ) الشدائد التي نحن فيها وهي الريح العاصفة والأمواج الشديدة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) على إرادة القول أو مفعول دعوا ؛ لأنه من جملة القول ، أي : لنكونن من الشاكرين لك بالإيمان والطاعة على إنعامك علينا بانجائنا مما نحن فيه من هذه الشدّة.
(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ) أي : هؤلاء الذين ظنوا أنهم أحيط بهم من الشدّة التي كانوا فيها إجابة لدعائهم (إِذا هُمْ يَبْغُونَ) أي : فأجاؤوا الفساد وسارعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي (فِي الْأَرْضِ) أي : جنسها (بِغَيْرِ الْحَقِّ.) فإن قيل : البغي لا يكون بحق فما معنى قوله بغير؟ أجيب : بأنه قد يكون بحقّ كاستيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم ، وإحراق زروعهم ، وقطع أشجارهم ، كما فعل صلىاللهعليهوسلم ببني قريظة ، فإنّ ذلك إفساد بحق. قال صاحب «المفردات» : البغي على ضربين : أحدهما : غير محمود وهو مجاوزة الحق إلى الباطل وإلى الشبهة ، والآخر : كفعل المسلمين ما ذكر (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ) أي : ظلمكم (عَلى أَنْفُسِكُمْ) يعود وباله عليها خاصة. قال صلىاللهعليهوسلم : «أسرع الخير ثوابا صلة الرحم ، وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة» (١). وروي «ثنتان يعجلهما الله تعالى في الدنيا : البغي ، وعقوق الوالدين» (٢). وعن ابن عباس : لو بغى جبل على جبل لدك الباغي. وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه (٣) :
يا صاحب البغي إنّ البغي مصرعة |
|
فاربع فخير فعال المرء أعدله |
فلو بغى جبل يوما على جبل |
|
لاندك منه أعاليه وأسفله |
وعن محمد بن كعب : ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر. وعلى تقدير الانتفاع بالبغي هو عرض زائل كما قال تعالى : (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياما قليلة ، وهي مدّة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها. (ثُمَّ إِلَيْنا) بعد البعث (مَرْجِعُكُمْ) في القيامة (فَنُنَبِّئُكُمْ) أي : فنخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا من البغي والمعاصي فنجازيكم عليها. وقرأ حفص متاع بنصب العين على أنه مصدر مؤكد ، أي : تتمتعون متاع الحياة الدنيا ، والباقون بالرفع على أنه خبر بغيكم وعلى أنفسكم صلته ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : ذلك متاع الحياة الدنيا وعلى أنفسكم خبر بغيكم.
ولما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أتبعه بمثل
__________________
(١) أخرجه ابن ماجه حديث ٤٢١٢ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٥٤٦٥ ، ٤٥٥٤٩ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٣ / ٣٤٣.
(٢) أخرجه العجلوني في كشف الخفاء ١ / ٤٨ ، والبخاري في التاريخ الكبير ١ / ١٦٦ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٥٤٥٨.
(٣) البيتان لابن عباس في تفسير الكشاف للزمخشري ٢ / ٣٢٤.