السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل عليه درع ضيق قد خنقه ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة أخرى فانفكت أخرى حتى يخرج إلى الأرض» (١). وقال ابن عباس : يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سوء غيرهم. وعن الحسن إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا. وعن ابن عمر : ليس الواصل من وصل ، ثم وصل تلك مجازاة لكن من قطع ثم وصل وعطف من لم يصله ، وليس الحليم من ظلم ، ثم حلم حتى إذا هيجه قوم اهتاج لكن الحليم من قدر ثم عفا. وعن ابن كيسان إذا أذنبوا تابوا ، وقيل : إذا رأوا منكرا أمروا بتغييره ، وروي أنّ شقيقا البلخي دخل على ابن المبارك متنكرا فقال له : من أين أنت؟ فقال : من بلخ. فقال : وهل تعرف شقيقا؟ قال : نعم. فقال : وكيف طريقة أصحابه؟ قال : إذا منعوا صبروا وإذا أعطوا شكروا. فقال ابن المبارك : طريقة كلابنا هكذا. فقال شقيق : فكيف ينبغي أن يكون الأمر؟ فقال : الكاملون هم الذين إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا. (أُولئِكَ ،) أي : العالو الرتبة (لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ.)
وبينها تعالى بقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ ،) أي : إقامة لا انفكاك لها يقال : عدن بالمكان إذا أقام به ، ثم استأنف بيان تمكنهم بها بقوله تعالى : (يَدْخُلُونَها) ولما كانت الدار لا تطيب بدون الأحبة قال تعالى عاطفا على الضمير المرفوع : (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ ،) أي : الذين كانوا سببا في إيجادهم ، فيشمل ذلك الآباء والأمهات وإن علوا (وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ،) أي : الذين تسببوا عنهم ، والمعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهلهم ، وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم تبعا لهم وتعظيما لشأنهم ، ويقال : إنّ من أعظم موجبات سرورهم أن يجتمعوا فيتذاكروا أحوالهم في الدنيا ثم يشكروا الله تعالى على الخلاص منها والفوز بالجنة ، ولذلك قال الله تعالى في صفة أهل الجنة أنهم يقولون : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يس : ٢٦ ، ٢٧]. وفي ذلك دليل على أنّ الدرجة تعلو بالشفاعة ، وأن الموصوفين بتلك الصفات يقترن بعضهم ببعض لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنة زيادة في أنسهم ، والتقييد بالصلاح دلالة على أنّ مجرد الأنساب لا تنفع.
وفسر ابن عباس الصلاح بالتصديق فقال : يريد من صدّق بما صدّقوا وإن لم يعمل مثل أعمالهم ، قال الرازي : قوله (وَأَزْواجِهِمْ) ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة ، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه ، وما روي عن سودة أنها لما همّ الرسول صلىاللهعليهوسلم بطلاقها قالت : دعني يا رسول الله أحشر في جملة نسائك. كالدليل على ما ذكرنا اه. وعلى هذا من تزوجت بغيره قيل : إنها تتخير بينهما.
ثم زاد تعالى في ترغيبهم بقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ) لأنّ الإكثار من ترداد رسل الملك أعظم في الفخر وأكثر في السرور والعز. ولما كان إتيانهم من الأماكن المعتادة مع القدرة على غيرها أدل على الأدب والكرم قال تعالى : (مِنْ كُلِّ بابٍ) قال ابن عباس : لهم خيمة من درّة مجوّفة طولها فرسخ وعرضها فرسخ لها ألف باب مصارعها من ذهب يدخلون عليهم من كل
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٤٥ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٢٣٧٥ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٠١٢٠ ، والطبراني في المعجم الكبير ١٧ / ٢٨٤ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٢٠١ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٤ / ١٠٦.