باب يقولون لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ ،) أي : فأضمر القول هنا لدلالة الكلام عليه (بِما صَبَرْتُمْ) على أمر الله ، والباء للسببية ، أي : بسبب صبركم ، أو البدلية ، أي : بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ومتاعبه. فإن قيل : بم يتعلق قوله (بِما صَبَرْتُمْ) قال الزمخشري : بمحذوف تقديره : هذا بما صبرتم ، وقال البيضاوي : متعلق بعليكم أو بمحذوف لا بسلام ، فإن الخبر فاصل مع أنّ الزمخشري قال ويجوز أن يتعلق بسلام ، أي : نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم ، وهذا أظهر وردّ الأول بأن الممنوع منه إنما هو المصدر المؤوّل بحرف مصدري وفعل ، والمصدر هنا ليس كذلك.
ولما تم ذلك تسبب عنه قوله تعالى : (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) وهي المسكن في قرار المهيأ بالأبنية التي يحتاج إليها ، والمرافق التي ينتفع بها ، والعقبى الانتهاء الذي يؤدي إليه الابتداء من خير أو شر ، والمخصوص بالمدح محذوف ، أي : عقباكم. ولما ذكر تعالى صفات السعداء وما يترتب عليها من الأحوال الشريفة العالية أتبعها بذكر أحوال الأشقياء ، وذكر ما يترتب عليها من الأحوال المخزية المكربة ، وأتبع الوعد بالوعيد والثواب بالعقاب ؛ ليكون البيان كاملا فقال تعالى :
(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ ،) أي : فيعملون بخلاف موجبه ، والنقض التفريق الذي ينفي تأليف البناء (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ،) أي : الذي أوثقه عليهم من الإقرار والقبول (وَيَقْطَعُونَ ما ،) أي : الذي (أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) وذلك في مقابلة قوله من قبل (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) [الرعد ، ٢١] فجعل من صفات هؤلاء القطع بالضد من ذلك الوصل ، والمراد به قطع ما يوجب الله تعالى وصله ، أي : لما له من المحاسن الجلية والخفية التي هي عين الصلاح ، ويدخل في ذلك وصل الرسول صلىاللهعليهوسلم بالموالاة والمعاونة ، ووصل المؤمنين ووصل الأرحام ، ووصل سائر من له حق (وَيُفْسِدُونَ ،) أي : يوقعون الفساد (فِي الْأَرْضِ ،) أي : في أي جزء كان منها بالظلم وتهييج الفتن والدعاء إلى غير دين الله تعالى (أُولئِكَ) أي البعداء البغضاء (لَهُمُ اللَّعْنَةُ ،) أي : الطرد والبعد (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) والدار لهم هي جهنم ، وليس لهم فيها إلا ما يسوء الصائر إليها.
ولما حكم تعالى على من نقض عهده في قبول التوحيد والنبوّة بأنهم ملعونون في الدنيا ومعذبون في الآخرة ، فكأنه قيل : لو كانوا أعداء الله تعالى لما فتح الله عليهم أبواب النعم واللذات في الدنيا! فأجاب الله تعالى بقوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ ،) أي : يوسعه (لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ،) أي : يضيقه على من يشاء سواء في ذلك الطائع والعاصي ولا تعلق لذلك بالكفر والإيمان فقد يوجد الكافر موسعا عليه دون المؤمن ويوجد المؤمن موسعا عليه دون الكافر فالدنيا دار امتحان ولما كانت السعة مظنة الفرح إلا عند من وفقه الله تعالى قال الله تعالى : (وَفَرِحُوا ،) أي : كفار مكة فرح بطر (بِالْحَياةِ الدُّنْيا ،) أي : بما نالوه فيها لا فرح سرور بفضل الله والعافية عليهم ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا ،) أي : بكمالها (فِي الْآخِرَةِ ،) أي : في جنبها (إِلَّا مَتاعٌ ،) أي : حقير متلاش يتمتع به ويذهب كعجالة الراكب وهي ما يتعجله من تميرات أو شربة ماء سويق أو نحو ذلك.
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة (لَوْ لا ،) أي : هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ ،) أي : على هذا الرسول (آيَةٌ ،) أي : علامة بينة (مِنْ رَبِّهِ ،) أي : المحسن إليه كالعصا واليد لموسى والناقة لصالح لنهتدي بها فنؤمن به وأمره الله تعالى أن يجيبهم بقوله : (قُلْ ،) أي : لهؤلاء المعاندين (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) إضلاله فلا تغني عنه الآيات شيئا وإن أنزلت كل آية (وَيَهْدِي ،) أي : يرشد