احتج عليهم تعالى بها كالابتداء في الإلزام بها؟ أجيب : بأنها لظهور برهانها وإن لم يقروا بها وضعت موضع ما إن دفعه دافع كان مكابرا رادّا للظاهر البيّن الذي لا مدخل للشبهة فيه دلالة على أنهم في إنكارهم لها منكرون أمرا مسلما معترفا بصحته عند العقلاء. ولذلك أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن ينوب عنهم في الجواب بقوله تعالى : (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) لأنّ لجاجهم لا يدعهم أن يعترفوا بها (فَأَنَّى) أي : فكيف (تُؤْفَكُونَ) عن عبادته مع قيام الدلائل. فإن قيل : ما الفائدة في ذكر هذه الحجة على سبيل السؤال والاستفهام؟ أجيب : بأنّ الكلام إذا كان ظاهرا جليا ثم ذكر على سبيل الاستفهام كان ذلك أبلغ وأوقع في القلب.
الحجة الثالثة : قوله تعالى (قُلْ) أي : قل يا محمد لهم (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) بنصب الحجج ، وخلق الاهتداء ، وإرسال الرسل ، ولما كانوا جاهلين بالجواب الحق في ذلك أو معاندين أمر الله تعالى رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يجيب بقوله تعالى : (قُلِ اللهُ) أي : الذي له الإحاطة الكاملة (يَهْدِي لِلْحَقِ) من يشاء لا أحدا ممن زعمتموه شركاء ، فالاشتغال بشيء منها بعبادة أو غيرها جهل محض. قال الزجاج : يقال هديت إلى الحق ، وهديت للحق بمعنى واحد. فالله تعالى ذكر هاتين اللغتين في قوله تعالى : (مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) وفي قوله تعالى : (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) وقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) أي : وهو الله تعالى (أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي) أي : يهتدي (إِلَّا أَنْ يُهْدى) أحق أن يتبع استفهام تقرير وتوبيخ ، أي : الأوّل أحق (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هذا الحكم الفاسد من اتباع من لا يستحق الاتباع.
وقوله تعالى : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ) في تفسيره وجهان : الأوّل : وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى. (إِلَّا ظَنًّا) لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم بل سمعوه من أسلافهم. الثاني : وما يتبع أكثرهم إلا ظنا في قولهم للأصنام آلهة ، وإنها شفعاء عند الله تعالى إلا الظنّ ، حيث قلدوا فيه آباءهم. قال الرازي : والقول الأول أقوى لأنا في القول الثاني نحتاج إلى تفسير الأكثر بالكل (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِ) فيما المطلوب فيه العلم (شَيْئاً) من الإغناء ، فدلت هذه الآية على أنّ كل من كان ظانا في مسائل الأصول ، وما كان قاطعا لا يكون مؤمنا. فإن قيل : فقول أهل السنة : أنا مؤمن إن شاء الله يمنع من القطع فوجب أن يلزمهم الكفر! أجاب الرازي : بأنّ هذا ضعيف من وجوه : الأوّل : أن مذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أن الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل ، فالشك حاصل في أنّ هذه الأعمال هل هي موافقة لأمر الله تعالى والشك في أحد أجزاء الماهية لا يوجب الشك في تمام الماهية. الثاني : أنّ الغرض من قوله : إن شاء الله تعالى بقاء الإيمان عند الخاتمة. الثالث : الغرض هضم النفس وكسرها. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) أي : بالغ العلم (بِما يَفْعَلُونَ) أي : من اتباعهم الظنّ ، وتكذيبهم الحق اليقين ، فيجازيهم عليه.
وقوله تعالى : (وَما كانَ) عطف على قوله : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) إلخ فهو حينئذ مقول القول ، أي : قل لهم ذلك الكلام. (هذَا الْقُرْآنُ) أي : الجامع لكل خير مع التأدية بأساليب الحكمة المعجزة لجميع الخلق (أَنْ يُفْتَرى) أي : افتراء (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : غيره ؛ لأنّ المفترى هو الذي تأتي به البشر ، وكفار مكة زعموا أنّ محمدا صلىاللهعليهوسلم أتى بهذا من عند نفسه ، فأخبر الله تعالى أنّ هذا القرآن وحي أنزله عليه وأنه مبرأ عن الافتراء والكذب وأنه لا يقدر عليه أحد إلا الله ، ثم ذكر ما يؤكد هذا بقوله تعالى : (وَلكِنْ) أنزل (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : قبله من