منها تقدّمه في الآية ، ومنها : أنّ القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجوانب ، والقوّة الباصرة لا تدرك المرئيّ إلا من جهة واحدة ، وهي المقابل ، ومنها : أنّ الإنسان إنما يستفيد العلم من التعلم من الأستاذ ، وذلك لا يكون إلا بقوة السمع ، فاستكمال النفس بالكمالات العلمية لا يحصل إلا بقوة السمع. ومنها : أنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام يراهم الناس ويسمعون كلامهم ، فنبوّتهم ما حصلت بسبب ما معهم من الصفات المرئية ، وإنما حصلت بسبب ما معهم من الأحوال المسموعة وهو الكلام وتبليغ الشرائع ، وبيان الأحكام. ومنها : أنّ المعنى الذي يمتاز به الإنسان من سائر الحيوانات هو النطق بالكلام ، وإنما ينتفع بذلك بالقوّة السامعة ، فمتعلق السمع النطق الذي يحصل به شرف الإنسان ، ومتعلق البصر إدراك الألوان والأشكال ، وذلك أمر مشترك فيه بين الناس وبين سائر الحيوانات.
ومنهم من قال : البصر ، واحتج بأمور منها : أن آلة القوّة الباصرة هي النور ، وآلة القوّة السامعة هي الهواء ، والنور أشرف من الهواء. ومنها : أنّ جمال الوجه يحصل بالبصر وبذهابه عيبه وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيبا في جمال وجهه ، والعرب تسمي : العينين الكريمتين ، ولا تصف السمع بمثل هذا ، وفي الحديث يقول الله تعالى : «من أذهبت كريمتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثوابا دون الجنة» (١). ومنها : أنهم قالوا في المثل المشهور : ليس وراء العيان بيان. وذلك يدل على أن أكمل وجوه الإدراكات هو الإبصار. ومنها : أنّ كثيرا من الأنبياء سمع الله ، واختلفوا في أنه هل رآه منهم أحد أم لا؟ وأيضا فإنّ موسى عليهالسلام أسمعه الله تعالى كلامه من غير سبق سؤال والتماس ، فلما طلب الرؤية قال : لن تراني ، وذلك يدل على أنّ حال الرؤية أعلى من حال السماع ، وهذا هو الظاهر. ولما حكم تعالى على أهل الشقاوة بالشقاوة بقضائه وقدره السابق فيهم أخبر تعالى أنّ تقدير الشقوة عليهم ما كان ظلما منه بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) أي : لأنه تعالى في جميع أحواله متفضل وعادل ، فيتصرّف في ملكه كيف يشاء والخلق كلهم عبيده ، وكل من تصرّف في ملكه بالفضل والعدل لا يكون ظالما ، وإنما قال تعالى : (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لأنّ فعلهم منسوب إليهم بسبب الكسب وإن كان قد سبق قضاء الله تعالى وقدره فيهم ، ففي ذلك دليل على أنّ للعبد كسبا وأنه ليس مسلوب الاختيار كما زعمت المجبرة. وقرأ حمزة والكسائي بكسر النون مخففة ورفع السين ، والباقون بنصب النون مشدّدة ونصب السين.
ولما وصف تعالى هؤلاء الكفار بقلّة الإصغاء وترك التدبر أتبعه بالوعيد بقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) أي : واذكر يا محمد يوم نحشر هؤلاء المشركين لموقف الحساب ، وأصل الحشر : إخراج الجماعة وإزعاجهم عن مكانهم (كَأَنْ) أي : كأنهم (لَمْ يَلْبَثُوا) في دنياهم. والجملة في موضع الحال من ضمير نحشرهم البارز ، أي : مشبهين بمن لم يلبثوا (إِلَّا ساعَةً) حقيرة (مِنَ النَّهارِ) أي : يستقصرون مدّة مكثهم في الدنيا وفي القبور لهول ما يرون (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) أي : يعرف بعضهم بعضا إذا بعثوا ثم ينقطع التعارف لشدّة الأهوال ، والجملة حال مقدّرة متعلق الظرف ، والتقدير : يتعارفون يوم نحشرهم. وقوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) أي : بالبعث.
__________________
(١) روي الحديث بلفظ : «من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له بثواب دون الجنة». أخرجه الترمذي في الزهد حديث ٢٤١ ، والدارمي في الرقاق باب ٧٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٦٥.