الحقيقة وإن كانوا يسمونها شركاء ـ تعالى الله عن ذلك ـ (إِنَ) أي : ما (يَتَّبِعُونَ) في ذلك (إِلَّا الظَّنَ) أي : ظنها أنها آلهة تشفع لهم وأنها تقربهم إلى الله تعالى ، ثم بيّن تعالى أنّ هذا الظنّ لا حكم له بقوله تعالى : (وَإِنْ) أي : ما (هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي : يكذبون في ذلك ، ويجوز أن يكون (وَما يَتَّبِعُ) في معنى الاستفهام ، أي : وأيّ شيء يتبعون ، و (شُرَكاءَ) على هذا نصب بيدعون ، وعلى الأوّل بيتبع ، وكان حقه (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) شركاء فاقتصر على أحدهما للدلالة.
وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي : ليزول عنكم التعب والكلال فيه بما تقاسون في نهاركم من تعب التردد في المعاش (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي : مضيئا تبصرون فيه مطالب أرزاقكم ومكاسبكم تنبيه على كمال قدرته وعظيم نعمته المتوحد هو بهما ليدلهم على تفرده باستحقاق العبادة. وإضافة الإبصار إلى النهار مع أنه يبصر فيه على طريق نقل الاسم من المسبب إلى السبب ، كقولهم : ليل نائم ؛ لأنّ الليل سبب للسكون. قال قطرب : تقول العرب : أظلم الليل ، أي : صار ذا ظلمة ، وأضاء النهار ، أي : صار ذا ضياء. (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَآياتٍ) أي : دلالات على وحدانيته تعالى (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع اعتبار وتدبر فيعلمون بذلك أنّ الذي خلق الأشياء كلها هو الإله المعبود المتفرد بالوحدانية في الوجود.
ثم ذكر الله تعالى نوعا من أباطيل الكفار بقوله تعالى : (قالُوا) أي : اليهود والنصارى ومن زعم أنّ الملائكة بنات الله (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) قال الله تعالى : (سُبْحانَهُ) أي : تنزيها له عن الولد (هُوَ الْغَنِيُ) عن كل أحد ، وإنما يطلب الولد من يحتاج إليه ، ثم بين تعالى غناه بقوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من ناطق وصامت ملكا وخلقا ، ولما بين تعالى بالدليل الواضح امتناع ما أضافوا إليه عطف بالإنكار والتوبيخ فقال : (إِنْ) أي : ما (عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي : حجة (بِهذا) أي : الذي تقولونه ، ثم بالغ تعالى في ذلك الإنكار عليهم بقوله تعالى : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) حقيقته وصحته ، وتضيفون إليه ما لا يجوز إضافته إليه تعالى جهلا منكم ، والاستفهام للتوبيخ.
(قُلْ) يا محمد لهؤلاء الذين يختلقون على الله الكذب فيقولون عليه الباطل ويزعمون أنّ له ولدا (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ) أي : يتعمدون (عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) أي : لا ينجحون في سعيهم ولا يفوزون بمطلوبهم بل خابوا وخسروا ، فإنهم لا ينجون من النار ولا يفوزون بالجنة ، ومن الناس من إذا فاز بشيء من المطالب العاجلة والمقاصد الخسيسة ظنّ أنه قد فاز بالمقصد ، والله سبحانه وتعالى أزال هذا الخيال بأن قال : (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) وفيه إضمار تقديره : لهم متاع في الدنيا ، على أنه مبتدأ خبره محذوف ، ويصح أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف تقديره : افتراؤهم متاع في الدنيا يقيمون به رياستهم في الكفر أو حياتهم أو تقلبهم متاع في الدنيا وهو أيام يسيرة بالنسبة إلى طول بقائهم في العذاب (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) بالموت (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ) بعد الموت (بِما) أي : بسبب ما (كانُوا يَكْفُرُونَ) ولما ذكر سبحانه وتعالى في هذه السورة من أحوال كفار قريش وما كانوا عليه من الكفر والعناد شرع بعد ذلك في قصص الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم وذكر الله تعالى منهم في هذه السورة ثلاث قصص :
القصة الأولى : قصة نوح عليهالسلام المذكورة بقوله تعالى :