له ، وذكرهم إياه في الثناء الحسن. وعن أبي ذرّ قال : قلت : يا رسول الله ، إنّ الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال : «تلك عاجل بشرى المؤمن» (١). ومنها : البشرى لهم عند الموت ، قال تعالى : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ) [فصلت ، ٣٠]. وأمّا البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة ، وما يرونه من بياض وجوههم ، وإعطاء الصحائف بأيمانهم ، وما يقرؤون منها ، وسلام الله تعالى عليهم كما قال تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس ، ٥٨] وغير ذلك من المبشرات بما بشر الله تعالى به عباده المتقين في كتابه ، وعلى ألسنة أنبيائه من جنته وكريم ثوابه ، فإن لفظ البشارة مشتق من خبر سار يظهر أثره في بشرة الوجه ، فكل ما كان كذلك دخل في هذه الآية ، ثم إنه تعالى لما ذكر صفة أوليائه وشرح أحوالهم قال تعالى : (لا تَبْدِيلَ) أي : بوجه من الوجوه (لِكَلِماتِ اللهِ) أي : لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده ، والكلمة والقول سواء ، ونظيره قوله تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) [ق ، ٢٩]. وقوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) هذه الجملة والتي قبلها اعتراض لتحقق المبشر به وتعظيم شأنه ، وليس من شرطه أن يقع بعده كلام يتصل بما قبله.
(وَلا يَحْزُنْكَ) يا محمد (قَوْلُهُمْ) أي : هؤلاء المشركين ، أي : لا يغمك تكذيبهم وتهديدهم وتشويرهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك ، وسائر ما يتكلمون به في شأنك. وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه ، والباقون بفتح الياء وضم الزاي وكلاهما بمعنى. وقوله تعالى : (إِنَّ الْعِزَّةَ) أي : القوة (لِلَّهِ جَمِيعاً) استئناف بمعنى التعليل ، كأنه قيل : ما لي لا أحزن فقيل إن العزة لله جميعا ، أي : أنّ الغلبة والقهر في مملكة الله لله جميعا ، لا يملك أحد شيئا منها لا هم ولا غيرهم ، فهو يغلبهم وينصرك عليهم. قال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة ، ٢١]. وقال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر ، ٥١]. وقيل : إنّ المشركين كانوا يتعززون بكثرة أموالهم وأولادهم وعبيدهم ، فأخبر الله تعالى أنّ جميع ذلك في ملكه فهو قادر على أن يسلب جميع ذلك ويذلهم بعد العز (هُوَ السَّمِيعُ) أي : البليغ السمع لأقوالهم (الْعَلِيمُ) أي : المحيط العلم بضمائرهم وجميع أحوالهم فهو البالغ القدرة على كل شيء فيجازيهم ، وهو تعليل لتفرّده بالعزة ؛ لأنه تفرّد بهذين الوصفين فانتفيا عن غيره ، ومن انتفيا عنه كان دون الحيوانات العجم فأنى يكون له عزة؟! فإن قيل : قوله تعالى : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) يضادّ قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون ، ٨] أجيب : بالمنع لأنّ عزة الرسول والمؤمنين كلها بالله فهي لله.
(أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ملكا وخلقا. فإن قيل : قد ذكر الله تعالى في الآية المتقدّمة (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بلفظ ما وقال هنا بلفظ من فما فائدة ذلك؟ أجيب : بأنه تعالى غلب في الآية الأولى ما لا يعقل على من يعقل لكثرته ، وفي هذه غلب العاقل على غيره لشرفه ، وقيل : مجموع الآيتين دال على أنّ الكل خلقه وملكه ، وقيل : إنّ المراد بمن في السموات الملائكة ، وبمن في الأرض الثقلان ، وإنما خصهم بالذكر لشرفهم ، وإذا كان هؤلاء في ملكه وتحت قهره فما لا يعقل منها أحق أن لا يكون له ندّا وشريكا فهو كالدليل على قوله تعالى : (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ) أي : يعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : غيره أصناما (شُرَكاءَ) على
__________________
(١) أخرجه مسلم في البر حديث ٢٦٤٢ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢٢٥.