فاقضوا ما أنتم قاضون ، وهذا مثل قول السحرة لفرعون : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) [طه : ٧٢] أي : اعمل ما أنت عامل. (وَلا تُنْظِرُونِ) أي : ولا تؤخرون بعد إعلامكم إياي ما أنتم عليه ، وإنما قال ذلك إظهارا لقلة مبالاته وثقته بما وعده ربه من كلامه وعصمته ، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلا (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي : أعرضتم عن تذكيري (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي : من جعل وعوض على تبليغ الرسالة ، فينفركم عني وتتهموني لأجله من طمع في أموالكم ، وطلب أجر على عظتكم ، ومتى كان الإنسان فارغا عن الطمع كان قوله أقوى تأثيرا في القلب (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة ، أي : ما أنصحكم إلا لوجه الله تعالى لا لغرض من أغراض الدنيا. وهكذا ينبغي لكل من ينفع الناس بعلم أو إرشاد إلى طريق الله تعالى (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي : إني مأمور بالاستسلام لكل مكروه يصل إليّ منكم لأجل هذه الدعوة ، وقيل : بدين الإسلام وأنا ماض فيه غير تارك له قبلتموه أو لم تقبلوه.
(فَكَذَّبُوهُ) أي : أصرّوا على تكذيبه ، بعدما ألزمهم الحجة ، وبين أن توليتهم ليست إلا لعنادهم وتمردهم لا جرم حقت عليهم كلمة العذاب (فَنَجَّيْناهُ) من الغرق (وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أي : السفينة وكانوا ثمانين (وَجَعَلْناهُمْ) أي : الذين أنجيناهم معه في الفلك (خَلائِفَ) في الأرض يخلفون الهالكين بالغرق (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بالطوفان ، وقوله تعالى : (فَانْظُرْ) أي : أيها الإنسان أو يا محمد (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن مثله وتسلية له ، وهذه القصة إذا سمعها من صدّق النبيّ صلىاللهعليهوسلم ومن كذب به كان زجرا للمكلفين من حيث يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نوح ، وتكون داعية للمؤمنين على الثبات على الإيمان ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نوح ، وهذه الطريقة في الترغيب والتحذير إذا جرت على سبيل الحكاية عمن تقدّم كانت أبلغ من الوعيد المبتدأ ، ولهذا الوجه أكثر تعالى ذكر أقاصيص الأنبياء عليهمالسلام.
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي : نوح (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) لم يسم هنا تعالى من كان بعد نوح من الرسل ، وقد كان بعده هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب صلوت الله وسلامه عليهم. (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي : بالمعجزات الواضحات التي تدل على صدقهم. (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي : فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدّه عنادهم وخذلان الله تعالى إياهم (بِما) أي : بسبب ما (كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي : أنهم كانوا قبل بعثة الرسل إليهم أهل جاهلية مكذبين بالحق ، فما وقع فصل بين حالتيهم بعد بعثة الرسل وقبلها كأن لم يبعث إليهم أحد (كَذلِكَ) أي : مثل ما طبعنا على هؤلاء بسبب تكذيبهم الرسل (نَطْبَعُ) أي : نختم (عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) في كل زمن لكل من تعمد العدول فيما لا يحلّ له ، فلا يقبل الإيمان لانهماكهم في الضلال واتباعهم المألوف. وفي أمثال ذلك دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد.
القصة الثانية : قصة موسى عليهالسلام المذكورة بقوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : هؤلاء الرسل (مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي : أشراف قومه وغيرهم تبع لهم ، فهو مرسل إلى الجميع (بِآياتِنا) التسع (فَاسْتَكْبَرُوا) عن اتباعها والإيمان بها ، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبيينها ويتعظموا عن قبولها (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي : كفارا ذوي آثام عظام ، فلذلك استكبروا عنها واجترؤوا عن ردّها.