(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) أي : جاء فرعون وقومه (مِنْ عِنْدِنا) أي : الذي جاء به موسى من عند ربه ، وعرفوا أنه ليس من عند موسى وهارون لتظاهر المعجزات الظاهرات المزيحة للشك (قالُوا) أي : غير متأملين له ولا ناظرين في أمره لفرط تمرّدهم (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) أي : بين ظاهر يعرفه كل أحد ، وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي لا يظهر إلا على كافر أو فاسق.
وقوله تعالى : (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا) فيه حذف تقديره : أتقولون للحق لما جاءكم هو سحر أسحر هذا ، فحذف السحر الأوّل اكتفاء بدلالة الكلام عليه ، ثم قال أسحر هذا؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار بمعنى أنه ليس بسحر ، ثم احتج على صحة قوله تعالى فقال : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) فإنه لو كان سحرا لاضمحل ولم يبطل سحر السحرة ، فقلب العصا حية ، وفلق البحر معلوم بالضرورة أنه ليس من باب التمويه والتخييل ، فثبت أنه ليس بسحر (قالُوا) أي : قوم فرعون لموسى (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) أي : لتردّنا وتصرفنا واللفت والفتل أخوان (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي : من الدين وعبادة الأصنام ، ثم قالوا لموسى وهارون (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ) أي : الملك والعز (فِي الْأَرْضِ) أي : أرض مصر. قال الزجاج : سمى الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا ، وأيضا الملوك موصوفون بالكبر ، ولهذا وصف ابن الرقيات مصعبا في قوله (١) :
ملكه ملك رأفة ليس فيه |
|
جبروت منه ولا كبرياء |
ينفي ما عليه الملوك من ذلك ، ويجوز أن يقصدوا بذلك ذمهما ، وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا ، كما قال القبطي لموسى عليهالسلام : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) [القصص ، ١٩]. (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) أي : بمصدقين فيما جئتما به. (وَقالَ فِرْعَوْنُ) لقومه إرادة للمناظرة لما أتى به موسى عليهالسلام (ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) أي : بالغ في علم السحر لئلا يفوت شيء من السحر بتأخر البعض. وقرأ حمزة والكسائي بغير ألف بين السين والحاء ، وتشديد الحاء مفتوحة وألف بعدها بصيغة فعال دالّ على زيادة قلق فرعون ، والباقون بألف بعد السين وتخفيف الحاء مكسورة ولا ألف بعدها.
(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ) أي : كل من في أرض مصر منهم قالوا لموسى : إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون نحن الملقين (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا) جميع (ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) فإن قيل : كيف أمرهم بالكفر والسحر والأمر بالكفر كفر؟ أجيب : بأنه إنما أمرهم بإلقاء ما معهم من الحبال والعصيّ التي معهم ليظهر للخلق ، إنما أتوا به عمل فاسد وسعي باطل لا على طريق أنه عليهالسلام أمرهم بالسحر.
(فَلَمَّا أَلْقَوْا) ما معهم من الحبال والعصيّ وخيلوا لسحرهم أعين الناس أنها تسعى (قالَ مُوسى) منكرا عليهم (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) قرأه أبو عمرو بهمزتين الأولى همزة الاستفهام فهي مفتوحة والثانية همزة وصل ، وله فيها وجهان : التسهيل والبدل ، فما استفهامية مبتدأ. وجئتم به خبرها ، والسحر بدل منه ، وقرأ الباقون بهمزة وصل فتسقط في الوصل ، أي : الذي جئتم به هو السحر لا ما سماه فرعون وقومه سحرا ، ثم أخبره موسى عليهالسلام بقوله : (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) أي : يهلكه ويظهر فضيحة صاحبه (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) أي : لا يثبته ولا يقوّيه.
__________________
(١) البيت من الخفيف ، وهو ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات ص ٩٦ ، والكشاف للزمخشري ٢ / ٣٤٤.