حتى نقول لا يصوم منه شيئا ثم قال تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ) أي : المحسن إليك (مَقاماً مَحْمُوداً) أتفق المفسرون على أنّ كلمة عسى من الله واجب. قال أهل المعاني : لأن لفظة عسى تفيد الأطماع ومن أطمع إنسانا في شيء ثم حرمه كان عارا والله أكرم من أن يطمع أحدنا في شيء ثم لا يعطيه ذلك.
وأمّا المقام المحمود فقال الواحدي : أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة كما قال صلىاللهعليهوسلم في هذه الآية : «هو المقام الذي أشفع فيه لأمّتي» (١). وقال حذيفة : يجمع الناس في صعيد واحد فلا تتكلم نفس فأوّل مدعو محمد صلىاللهعليهوسلم فيقول : «لبيك وسعديك والشر ليس إليك ، والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت» (٢). فقال هذا هو المراد من قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.)
ويدل للأوّل أحاديث ؛ منها ما روي عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لكل نبيّ دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي وهي نائلة منكم إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئا» (٣). ومنها ما روي عن جابر أنه قال : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته. حلت له شفاعتي يوم القيامة» (٤). ومنها ما روي عن أنس أنّ النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب أكله من الشجرة وقد نهي عنها ولكن ائتوا نوحا أوّل نبيّ بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحا فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب بسؤال ربه بغير علم ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن فيأتون إبراهيم فيقول لست هناكم ويذكر ثلاث كذبات كذبهنّ ولكن ائتوا موسى عبدا آتاه الله التوراة وكلمه وقربه نجيا. قال : فيأتون موسى فيقول : لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب قتله النفس ولكن ائتوا عيسى عبد الله وكلمته قال : فيأتون عيسى فيقول لست هناكم ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر قال : فيأتوني فاستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيته وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني فيقول : ارفع رأسك يا محمد وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه. قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء يعلمنيه قال ثم أشفع فيحدّ لي حدّا فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ثم أعود ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول ارفع
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٤٤١ ، ٥٢٨ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ١٩٧.
(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك ٢ / ٣٦٣ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٣٧٧ ، والزبيدي في إتحاد السادة المتقين ٤ / ٣٣٧ ، ٤٣١ ،
(٣) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٩٩ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٦٠٢ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٣٠٧.
(٤) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٦١٤ ، وأبو داود في الصلاة حديث ٥٢٩ ، والترمذي في الصلاة حديث ٢١١ ، والنسائي في الأذان حديث ٦٨٠ ، وابن ماجه في الأذان حديث ٧٢٢.