أرسلت به وإن تقلبوه فهو حظكم وإن تردّوه أصبر لأمر الله. قالوا : فإن لم تفعل فسل ربك أن يبعث ملكا يصدّقك وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك فإنا نقوم بالأسواق ونلتمس المعاش كما تلتمسه فقال صلىاللهعليهوسلم : ما بعثت بهذا ولكنّ الله بعثني بشيرا ونذيرا. قالوا : فأسقط السماء كما زعمت إنّ ربك إن شاء فعل؟ فقال : ذاك إلى الله إن شاء فعل ذلك بكم. فقال قائل منهم : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا ، فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقام معه عبد الله بن أمية وهو ابن عاتكة بنت عبد المطلب ، وقال له : عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك أن تجعل ما تخوّفهم به من العذاب فلم تفعل فو الله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ترقى به ، وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي بنسخة منشورة معك ، ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدّقك فانصرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى أهله حزينا لما رأى من مباعدتهم فأنزل الله هذه الآية» وفيها إشارة إلى أنه ليس من شرط كونه نبيا صادقا تواتر المعجزات الكثيرة وتواليها إذ لو فتح هذا الباب لزم أن لا ينتهي الأمر فيه إلى مقطع وكلما أتى النبيّ صلىاللهعليهوسلم بمعجز اقترحوا عليه بمعجز آخر ولا ينتهي الأمر فيه إلى حدّ ينقطع عنه عناد المعاندين وتعنت الجاهلين مع أنه صلىاللهعليهوسلم أعطى من الآيات والمعجزات ما أغنى عن هذا كله مثل القرآن وانشقاق القمر وتفجير العيون من بين الأصابع وما أشبه ذلك.
ولما تمّ تعنتهم وكان لسان الحال طالبا من الله تعالى الجواب عنه أمر الله تعالى بجوابهم بقوله تعالى : (قُلْ) أي : لهؤلاء البعداء والأشقياء : (سُبْحانَ رَبِّي) أي : تعجبا من اقتراحاتهم وتنزيها لله من أن يأتي أو يتحكم عليه أو يشاركه أحد في القدرة. وقرأ ابن كثير وابن عامر بصيغة الماضي والباقون قل بصيغة الأمر و (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً) لا يقدر على غير ما يقدر عليه البشر (رَسُولاً) كما كان من قبلي من الرسل وكانوا لا يؤتون قومهم إلا بما يظهره الله تعالى على أيديهم بما يلائم حال قومهم ولم يكن أمر الآيات إليهم ولا لهم أن يتحكموا على الله حتى يتخيروها. هذا هو الجواب المجمل ، وأمّا التفصيلي فقد ذكر في آيات أخر كقوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) [الأنعام ، ٧](وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً) [الحجر ، ١٤] ونحو ذلك.
ولما أمر بما تضمن أنه كإخوانه من الرسل في كونه بشرا أتبعه قوله عطفا على فأبى أو وقالوا : (وَما مَنَعَ النَّاسَ) أي : قريشا ومن قال بقولهم لما لهم من الاضطراب (أَنْ يُؤْمِنُوا) أي : لم يبق لهم مانع من الإيمان والجملة مفعول منع (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) أي : الدليل القاطع على الإيمان وهو القرآن وغيره من الأدلة. وقرأ أبو عمرو وهشام بإدغام ذال إذ عند الجيم والباقون بالإظهار وأمال الألف بعد الجيم حمزة وابن ذكوان محضة وإذا وقف حمزة على جاءهم سهل الهمزة مع المدّ والقصر. (إِلَّا أَنْ قالُوا) فاعل منع أن قالوا ، أي : منكرين عليه غاية الإنكار متعجبين متهكمين (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) لأنّ الكفار كانوا يقولون : لن نؤمن لك لأنك بشر ، ولو بعث الله تعالى رسولا إلى الخلق لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة فأجابهم الله تعالى بقوله : (قُلْ) أي : لهؤلاء المطرودين عن الرحمة (لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ) عليها كالآدميين (مُطْمَئِنِّينَ) أي : مستوطنين فيها كالبشر (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ) مرّة بعد مرّة كما فعلنا في تنزيل جبريل عليهالسلام على الأنبياء من البشر وحقق الأمر بقوله تعالى : (مِنَ السَّماءِ مَلَكاً