البلاد والله تعالى أهلك فرعون وجعل تلك الأرض خالصة لموسى ولقومه فأدخله البحر حين أدخل بني اسرائيل فأنجاهم وأغرق آل فرعون (وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) كما جرت به سنة الله تعالى فيمن عاند بعد أن رأى الخوارق وكفر النعمة وأفرط في البغي بعد ظهور الحق فليحذر هؤلاء مثل ذلك ولا سيما إذا خرج رسولنا من بين أظهرهم ففي هذه الآية وأمثالها بشارة له صلىاللهعليهوسلم في أنّ الله تعالى يسلك به في النصرة والتمكن سبيل إخوانه من الرسل عليهم الصلاة والسّلام.
(وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ ،) أي : الإغراق (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) الذين كانوا تحت يده أذل من العبيد لتقواهم وإحسانهم (اسْكُنُوا الْأَرْضَ ،) أي : التي أراد أن يستفزكم منها (فَإِذا جاءَ ،) أي : مجيئا محققا (وَعْدُ الْآخِرَةِ ،) أي : القيامة بعد أن سكنتم الأرض أحياء ودفنتم فيها أمواتا (جِئْنا ،) أي : بما لنا من العظمة والقدرة (بِكُمْ) منها (لَفِيفاً ،) أي : بعثناكم وإياهم مختلطين لا حكم لأحد على آخر ولا دفع لأحد عن آخر على غير الحالة التي كانت في الدنيا ثم ميزنا بعضكم عن بعض.
ثم عطف سبحانه وتعالى على قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) قوله عزوجل : (وَبِالْحَقِّ ،) أي : من المعاني الثابتة التي لا مرية فيها لا بغيره (أَنْزَلْناهُ) نحن ، أي : القرآن فهو ثابت لا يزول كما أنّ الباطل هو الذاهب الزائل وهذا القرآن الكريم مشتمل على أشياء لا تزول وذلك لأنه مشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام وعلى تعظيم الملائكة وتقرير نبوّة الأنبياء وإثبات الحشر والنشر والقيامة ، وكل ذلك مما لا يقبل الزوال ويشتمل أيضا على شريعة باقية لا يتطرّق إليها النقص والتغيير والتحريف وأيضا هذا القرآن تكفل الله تعالى بحفظه عن تحريف الزائغين وتبديل الجاهلين كما قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر ، ٩]. (وَبِالْحَقِ) لا بغيره (نَزَلَ) هو ووصل إليهم على لسانك بعد إنزاله عليك كما أنزلناه سواء غضا طريا محفوظا لم يطرأ عليه طارئ فليس فيه من تحريف ولا تبديل كما وقع في كتاب اليهود الذين سألهم قومك ثم قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ) يا أفضل الخلق بما لنا من العظمة (إِلَّا مُبَشِّراً) للمطيع (وَنَذِيراً) للعاصي من العقاب فلا عليك إلا التبشير والإنذار لا ما يقترحونه عليك من المعجزات فإن قبلوا الدين الحق انتفعوا به وإلا فليس عليك من كفرهم شيء.
ثم إنّ الله تعالى أخبر أنّ الحكمة في إنزال القرآن مفرّقا بقوله عزوجل : (وَقُرْآناً ،) أي : وفصلنا أو وأنزلنا قرآنا (فَرَقْناهُ ،) أي : أنزلناه منجما في أوقات متطاولة قال سعيد بن جبير نزل القرآن كله ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء السفلى ، ثم فصل في السنين التي نزل فيها. قال قتادة : كان بين أوّله وآخره عشرون سنة وقيل ثلاث وعشرون سنة والمعنى قطعناه آية آية وسورة سورة ولم ينزل جملة (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ ،) أي : عامّة (عَلى مُكْثٍ ،) أي : مهل وتؤدة ليفهموه (وَنَزَّلْناهُ) من عندنا بما لنا من العظمة (تَنْزِيلاً) بعضه إثر بعض مفرّقا بحسب الوقائع لأنه أتقن في فصلها وأعون على الفهم لطول التأمّل لما نزل من نجومه في مدّة ما بين النجمين لغزارة ما فيه من المعاني.
ثم إن الله تعالى هدّدهم على لسان نبيه صلىاللهعليهوسلم بقوله تعالى : (قُلْ) لهؤلاء المضلين (آمِنُوا بِهِ ،) أي : القرآن (أَوْ لا تُؤْمِنُوا) فالإيمان به غير محتاج إليكم ولا موقوف عليكم لأنكم إن آمنتم به كان الحظ لكم وإلا لم تضروا إلا أنفسكم فاختاروا ما تريدون فإن إيمانكم بالقرآن لا يزيده كمالا