وامتناعكم منه لا يورثه نقصانا وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ،) أي : من قبل إنزاله ممن آمن به من بني اسرائيل تعليل له ، أي : إن لم تؤمنوا به وأنتم أهل جاهلية وشرك فإنّ خيرا منكم وأفضل وهم العلماء الذين قرؤوا الكتب وعلموا ما الوحي وما الشرائع قد آمنوا به وصدّقوه وثبت عندهم أنه النبيّ العربيّ الموعود في كتبهم (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ ،) أي : القرآن (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام. قال الزجاج : الذقن مجمع اللحيين وكما يبتدئ الإنسان بالخرور إلى السجود فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن. وقيل : إنّ الأذقان كناية عن اللحى والإنسان إذا بالغ عند السجود في الخشوع والخضوع ربما مسح لحيته على التراب ، فإنّ اللحية يبالغ في تنظيفها فإذا عفرها الإنسان بالتراب في حوض المبالغة فقد أتى بغاية التعظيم ، وقيل : إنّ الإنسان إذا استولى عليه خوف الله تعالى فربما سقط على الأرض في معرض السجود كالمغشي عليه فيكون حينئذ خروره على الذقن فقوله (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) كناية عن غاية ولهه وخوفه وخشيته. فإن قيل : لم قال : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) ولم يقل يسجدون؟ أجيب : بأنّ المقصود من ذكر هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك حتى كأنهم يسقطون. فإن قيل : لم قال : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) ولم يقل على الأذقان؟ اجيب : بأن العرب تقول إذا خرّ الرجل فوقع لوجهه خرّ للذقن ثم بين أن ذلك ليس سقوطا اضطراريا من كل جهة بقوله تعالى : (سُجَّداً ،) أي : يفعلون ذلك لما يعلمون من خيفته بما أوتوا من العلم السالف وما في قلوبهم من الإذعان والخشية للرحمن.
(وَيَقُولُونَ ،) أي : على وجه التجديد المستمرّ (سُبْحانَ رَبِّنا) تنزيها له عن خلف الوعد (إِنْ ،) أي : انه (كانَ ،) أي : كونا لا ينفك (وَعْدُ رَبِّنا ،) أي : المحسن إلينا بالإيمان وما تبعه من وجوه العرفان (لَمَفْعُولاً ،) أي : دون خلف ولا بدّ أن يأتي جميع ما وعد به في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد صلىاللهعليهوسلم وإنزال الفرقان عليه ومن الثواب والعقاب وهو تعريض بقريش حيث كانوا يستهزؤون بالوعيد في قولهم أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ونحوه مما في معناه الطعن في قدرة الله تعالى القادر على كل شيء.
وقوله تعالى : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) كرّره لاختلاف الحال والسبب فإنّ الأول للشك عند إنجاز الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن حال كونهم باكين من خشية الله (وَيَزِيدُهُمْ ،) أي : سماع القرآن (خُشُوعاً ،) أي : خضوعا وتواضعا ولين قلب ورطوبة عين.
ولما طالت الكلمات في المناظرة مع المشركين ومنكري النبوّات والجواب عن شبهاتهم أتبعها ببيان كيف يدعون الله ويطيعونه وكيف يذكرونه في وقت الاشتغال بأداء العبودية فقال تعالى لنبيه محمد صلىاللهعليهوسلم : (قُلِ) لهم (ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عباس : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال ذات ليلة وهو ساجد : «يا الله يا رحمن» فسمعها أبو جهل وهم لا يعرفون الرحمن. فقال : إنّ محمدا ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر مع الله تعالى يقال له الرحمن ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، أي : إن شئتم قولوا يا الله وإن شئتم قولوا يا رحمن (١). وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يجهر بالدعاء يقول : يا الله يا رحمن فسمعه أهل مكة فأقبلوا عليه فأنزل الله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ)
__________________
(١) أخرجه ابن حجر في فتح الباري ١٣ / ٣٦٠.