بقوله تعالى : (لِنَبْلُوَهُمْ ،) أي : نعاملهم معاملة المختبر (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) بإخلاص الخدمة لربه فيصير ما كنا نعلمه منهم ظاهرا فإنّ الله تعالى يعلم السرّ وأخفى ، لتقام به عليهم الحجة على ما يتعارفونه بينهم بأن من أظهر موافقة الأمر فيما نال من الزينة حاز المثوبة ومن اجترأ على مخالفة الأمر بما آتاه منها استحق العقوبة فكأنه تعالى يقول : يا محمد إني خلقت الأرض وزينتها وأخرجت منها أنواع المنافع والمصالح والمقصود من خلقها بما فيها من المنافع ابتلاء الخلق بهذه التكاليف ثم إنهم يكفرون ويتمرّدون ومع ذلك فلا أقطع عنهم مواد هذه النعم فأنت أيضا يا محمد لا ينبغي أن تنتهي في الحزن بسبب كفرهم إلى أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدين الحق.
ثم إنه تعالى لما بين أنه إنما زين الأرض لأجل الامتحان والابتلاء لا لأجل أن يبقى الإنسان فيها متنعما بها أبدا ، زهد فيها بقوله تعالى : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها) من جميع تلك الزينة لا يصعب علينا شيء منه (صَعِيداً ،) أي : فتاتا (جُرُزاً ،) أي : يابسا لا ينبت ونظيره قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن ، ٢٦]. وقوله تعالى : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٦ ، ١٠٧]. وتخصيص الإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض إلا أنّ سائر الآيات على أنّ الأرض أيضا لا تبقى كما قال تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) [إبراهيم ، ٤٨].
ولما أنّ القوم تعجبوا في قصة أصحاب الكهف وسألوها النبيّ صلىاللهعليهوسلم على سبيل الامتحان قال تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ ،) أي : ظننت على ما لك من العقل الرزين والرأي الرصين (أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) على ما لزم من تهويل السائلين من الكفرة من اليهود والعرب والواقع أنهم كانوا من العجائب ليسوا بعجب بالنسبة إلى كثرة آياتنا فإنّ من كان قادرا على تخليق السموات والأرض كيف يستبعد من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة مدّة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم. والكهف الغار الواسع في الجبل ، واختلف في الرقيم فقيل : هو اسم كلبهم قال أمية بن أبي الصلت (١) :
وليس بها إلا الرقيم مجاورا
وصيدهم ؛ وهو بكسر الصاد مفعول مجاورا ، أي : فناءهم. والقوم في الكهف هجد ؛ ، أي : نوّم ، وقيل : هو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم وقصصهم جعل على باب الكهف. قال البغويّ : وهذا أظهر الأقاويل. وقيل : إنّ الناس رقموا حديثهم نقرا في الجبل ، وقيل : هو الوادي الذي فيه الكهف ، وقيل : الجبل ، وقيل : قريتهم ، وقيل أصحاب الرقيم قوم آخرون غير أصحاب الكهف كانوا ثلاثة يطلبون الكلأ أو نحوه لأهلهم فأخذهم المطر فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة وسدّت عليهم بابه فقال أحدهم : اذكروا أيكم عمل حسنة لعلّ الله يرحمنا ببركته فقال واحد : استعملت أجراء ذات يوم فجاء رجل منهم وسط النهار وعمل في بقيته مثل عملهم فأعطيته مثل أجرهم فغضب أحدهم وترك أجره فوضعته في جانب البيت فمرّ بي بقر فاشتريت فصيلة والفصيلة ولد الناقة إذا انفصل عن أمّه فبلغت ما شاء الله فرجع إليّ بعد حين شيخا ضعيفا لا أعرفه وقال : إنّ لي عندك حقا وذكره حتى عرفته فدفعتها إليه جميعا اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا فانصدع عنهم الجبل حتى رأوا الضوء والصدع الشق والصداع وجع الرأس. وقال آخر : كان في
__________________
(١) الشطر لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.