القاهرة الظاهرة ورأى القوم مصرّين على الجحد والعناد والإنكار أخذ يدعو عليهم ، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أوّلا سبب إقدامه على الجرائم وكان جرمهم هو لأجل حبهم الدنيا يزكو (وَ) لهذا السبب (قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ) أي : أشراف قومه على ما هم عليه من الكفر والكبر (زِينَةً) أي : عظيمة يتزينون بها من الحلية واللباس وغيرهما من الدواب والغلمان وأثاث البيت الفاخر ونحو ذلك. (وَأَمْوالاً) أي : كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كان لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت ، ثم بيّن غايتها لهم فقال مفتتحا بالنداء باسم الرب : ليعيذه وأتباعه من مثل حالهم. (رَبَّنا) أي : يا ربنا آتيتهم ذلك (لِيُضِلُّوا) أي : في خاصة أنفسهم ويضلوا غيرهم (عَنْ سَبِيلِكَ) أي : دينك واللام للعاقبة وهي متعلقة بآتيت كقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص ، ٨] وقيل : لام كي ، أي : آتيتهم كي تفتنهم. وقيل : هو دعاء عليهم بما علم من ممارسة أحوالهم أنه لا يكون غير ذلك. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بضم الياء والباقون بالفتح (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) أي : امسخها وغيرها عن هيئتها. قال قتادة : صارت أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم حجارة. وقال محمد بن كعب : جعل سكرهم حجارة. وقال ابن عباس : بلغنا أنّ الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا وأرباعا ، ودعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا آل فرعون ، فأخرج منها البيضة مشقوقة والجوزة مشقوقة ، وإنها كالحجر. قال السدّي : مسخ الله تعالى أموالهم حجارة والنخيل والثمار والدقيق والأطعمة فكانت إحدى الآيات التسع (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : اطبع عليها واستوثق حتى لا تنشرح للإيمان وقوله : (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) جواب للدعاء ، أو دعاء بلفظ النهي أو عطف على ليضلوا ، وما بينهما دعاء معترض. وقوله تعالى : (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) فيه وجهان :
الأوّل : قال ابن عباس : إنّ موسى كان يدعو وهارون كان يؤمن فلذلك قال : دعوتكما ، وذلك أنّ من يقول عند دعاء الداعي آمين فهو أيضا داع ؛ لأنّ قوله آمين تأويله : استجب ، فهو سائل كما أنّ الداعي سائل أيضا.
الثاني : أن يكون كل منها ذكر هذا. غاية ما في الباب أن يقال : إنه تعالى حكى هذا الدعاء عن موسى بقوله تعالى : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا) وهذا لا ينافي أن يكون هارون قد ذكر الدعاء أيضا. وأمّا قوله تعالى : (فَاسْتَقِيما) فمعناه اثبتا على الدعوة والرسالة والزيادة في الزام الحجة فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما فلا تستعجلا. قال ابن جريج : إنّ فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة. (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي : الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجابا كان المقصود حاصلا في الحال فربما أجاب الله تعالى دعاء الإنسان في مطلوبه إلا أنه إنما ربما يوصله إليه في وقته المقدور ، والاستعجال لا يصدر إلا من الجهال ، وهذا كما قال تعالى لنوح عليه الصلاة والسّلام : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود ، ٤٦] وهذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى عليهالسلام ، كما أنّ قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر ، ٦٥] لا يدل على صدور الشرك منه صلىاللهعليهوسلم. وقرأ ابن ذكوان بتخفيف النون ، والباقون بتشديدها ؛ لأنّ نون التوكيد تثقل وتخفف.