ولما أجاب الله تعالى دعاءهما أمر بني إسرائيل وكانوا ستمائة ألف بالخروج من مصر في الوقت المعلوم ، ويسر لهم أسبابه وفرعون كان غافلا عن ذلك ، فلما سمع أنهم خرجوا وعزموا على مفارقة مملكته خرج في عقبهم كما قال تعالى :
(وَجاوَزْنا) أي : قطعنا (بِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي : عبدنا المخلص لنا (الْبَحْرَ) حتى بلغوا الشط حافظين لهم (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ) أي : لحقهم وأدركهم يقال : تبعه وأتبعه إذا أدركه ولحقه (بَغْياً وَعَدْواً) أي : ظلما وعدوانا. وقيل : بغيا في القول وعدوا في الفعل ، فلما أدركهم فرعون قالوا لموسى : أين المخلص والمخرج ، البحر أمامنا وفرعون وراءنا ، قد كنا نلقى من فرعون البلاء العظيم ، فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق لموسى وقومه فكان كل فرق كالطود العظيم ، وكشف عنه وجه الأرض ، وانتشر لهم البحر ، فلما وصل فرعون إلى البحر هابوا دخوله ، وكان فرعون على حصان أدهم وكان معه في عسكره ثمانمائة ألف حصان على لون حصانه ، وميكائيل يسوقهم حتى لم يشذ منهم أحد ، فلما خرج آخر بني اسرائيل من البحر تقدّمهم جبريل على فرس وخاض البحر ، فلما وجد الحصان ريح الأنثى لم يملك فرعون من أمره شيئا ، فنزل البحر وأتبعه جنوده ، حتى إذا كملوا جميعا في البحر وهمّ أوّلهم بالخروج التطم البحر عليهم ، فلما أتاه الغرق أتى بكلمة الإخلاص كما قال تعالى : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) أي : لحقه (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ) أي : بأنه (لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.) فإن قيل : إنه آمن ثلاث مرات أولها قوله : (آمَنْتُ.) وثانيها : قوله : (لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ.) وثالثها : قوله : (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.) فما السبب في عدم القبول؟ أجاب : العلماء عن ذلك بأجوبة منها : أنه إنما آمن عند نزول العذاب ، والإيمان والتوبة عند معاينة الملائكة والعذاب غير مقبول ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر ، ٨٥] ودس جبريل في فيه من حما البحر مخافة أن تناله الرحمة وقال له (آلْآنَ) تؤمن (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) وضيعت التوبة في وقتها وآثرت دنياك الفانية على الآخرة الباقية (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) بضلالك وإضلالك عن الإيمان والتوبة حتى أغلق بابها بحضور الموت ومعاينة الملائكة ، وإنما قال له : (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) في مقابلة قوله : (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ومنها أنّ فرعون إنما قال هذه الكلمة ليتوصل بها إلى دفع ما نزل به من البلية الحاضرة ، ولم يكن قصده الإقرار بوحدانية الله تعالى والاعتراف له بالربوبية ، فلم ينفعه ما قال في ذلك الوقت ، ومنها : أنّ فرعون كان من الدهرية المنكرين لوجود الصانع الخالق سبحانه وتعالى ولذلك قال : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) فلم ينفعه ذلك لحصول الشك في إيمانه ، ومثل هذا الاعتقاد الفاسد لا تزول ظلمته إلا بنور الحجة القطعية والدلائل اليقينية.
ومنها : ما روي في بعض الكتب أنّ بعض أقوام بني اسرائيل لما جاوزوا البحر اشتغلوا بعبادة العجل فلما قال فرعون : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) انصرف ذلك إلى العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت فكانت هذه الكلمة في حقه سببا لزيادة الكفر ، ومنها : أنّ الإيمان إنما كان يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى وبالإقرار بنبوّة موسى عليهالسلام ، وفرعون لم يقرّ بالنبوّة فلم يصح إيمانه ، ونظيره أن الواحد من الكفار لو قال ألف مرّة أشهد أن لا إله إلا الله فإنه لا يصح إيمانه إلا إذا قال معه : وأشهد أنّ محمدا رسول الله فكذا هنا. ومنها : أنّ جبريل عليهالسلام أتى