فرعون بفتوى ، ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادّعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه يقول أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج عن سيده الكافر بنعمته أن يغرّق في البحر ، ثم إنّ فرعون لما غرق رفع جبريل عليهالسلام إليه خطه. فإن قيل : فما فائدة دس جبريل في فم فرعون ذلك ؛ لأنه في تلك الحالة إمّا أن يكون التكليف ثابتا أم لا؟ فإن كان فكيف يمنعه من التوبة ، وإن كان غير مكلف فلا فائدة في ذلك؟ أجيب : بأنّ التكليف كان ثابتا وجبريل عليهالسلام لم يفعل ذلك من قبل نفسه فإنه عبد مأمور ، والله تعالى يفعل ما يشاء كما قال تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [فاطر ، ٨]. وقال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام ، ١١٠] وهكذا فعل بفرعون ، منعه من الإيمان عند الموت جزاء على تركه الإيمان أوّلا ، فدس الحما في فم فرعون من جنس الختم والطبع على القلب ، ومن الناس من قال : قائل هذا القول هو الله تعالى ؛ لأنه ذكر بعده.
(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) أي : نخرجك من البحر (بِبَدَنِكَ) أي : جسمك الذي لا روح فيه كاملا سويا لم يتغير ، أو نخرجك من البحر عريانا من غير لباس ، أو أنّ المراد بالبدن الدرع. قال الليث : البدن هو الدرع الذي يكون قصير الكمين ، وهذا منقول عن ابن عباس قال : كان عليه درع من ذهب يعرف به ، فأخرجه الله تعالى من الماء مع ذلك الدرع ليعرف (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ) أي : بعدك (آيَةً) أي : عبرة فيعرفوا عبوديتك ولا يقدموا على مثل فعلك. وعن ابن عباس : أنّ بعض بني اسرائيل شكوا في موته ، فأخرج لهم ليروه ويشاهده الخلق على ذلك الذلّ والمهانة بعدما سمعوا منه قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات ، ٢٤] ليعلموا أنّ دعواه كانت باطلة ، وأن ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك آل أمره إلى ما يرون لعصيانه ربه (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) أي : لا يعتبرون بها ، وهذا الكلام ليس إلا كلام الله تعالى ، ولكن القول الأوّل أشهر.
(وَلَقَدْ بَوَّأْنا) أي : أنزلنا (بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي : منزلا صالحا مرضيا وهو مصر والشام ، وإنما وصف المكان بالصدق ؛ لأنّ عادة العرب إذا مدحت شيئا أضافته إلى الصدق ، تقول العرب : هذا رجل صدق وقدم صدق ، والسبب فيه أنّ الشيء إذا كان كاملا صالحا لا بدّ أن يصدق الظنّ فيه. وقيل : أرض الشام والفرس والأردن ؛ لأنها بلاد الخصب والخير والبركة (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي : الحلالات المستلذات من الفواكه والحبوب والألبان والأعسال وغيرها ، فأورث تعالى بني إسرائيل جميع ما كان تحت أيدي فرعون وقومه من الناطق والصامت والحرث والنسل كما قال تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) [الأعراف ، ١٣٧]. (فَمَا اخْتَلَفُوا) أي : هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني اسرائيل في أمر دينهم (حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي : جاءهم ما كانوا به عالمين ، وذلك أنهم كانوا قبل مبعث محمد صلىاللهعليهوسلم مقرين به مجمعين على نبوّته غير مختلفين فيه لما يجدونه مكتوبا عندهم ، وكانوا يخبرون بمبعثه وصفته ونعته ويفتخرون بذلك على المشركين ، فلما بعث صلىاللهعليهوسلم اختلفوا فيه ، فآمن به بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه ، وكفر به بعضهم بغيا وحسدا وإيثارا لبقاء الرياسة ، وأنهم ما اختلفوا في دينهم إلا من بعد ما قرؤوا التوراة وعلموا أحكامها (إِنَّ رَبَّكَ) يا محمد (يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : الذي هو أعظم الأيام (فِيما كانُوا) أي : بأفعالهم الجبلية (فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي : فيتميز الحق من الباطل والصديق من الزنديق ويسكن كلا داره.