وبلوغي من الكبر حدّا لا حراك بي معه أني أقول لك : يا قادر على كل شيء هب لي (مِنْ لَدُنْكَ) أي : من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندك لم تجرها على مناهج العادات والأسباب المطردات (وَلِيًّا) أي : ابنا من صلبي.
(يَرِثُنِي) في جميع ما أنا فيه من العلم والنبوّة والعمل (وَيَرِثُ) زيادة على ذلك (مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) جزءا مما خصصتهم به من المنح وفضلتهم به من النعم ومحاسن الأخلاق ومعالي الشيم فإن الأنبياء لا يورثون المال ، وقيل : يرثني الحبورة أي : العلم بتحبير الكلام وتحسينه فإنه كان حبرا هو بالفتح والكسر وهو أفصح ، يقال : للعالم بتحبير الكلام وتحسينه وهو يعقوب بن إسحاق عليهماالسلام.
وقيل : يرثني العلم ويرث من آل يعقوب النبوّة ولفظ الإرث يستعمل في المال وفي العلم والنبوّة ، أما في المال فلقوله تعالى : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) [الأحزاب ، ٢٧] ، وأما في النبوة فلقوله تعالى : (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) [غافر ، ٥٣] الآية ، وقال صلىاللهعليهوسلم : «العلماء ورثة الأنبياء» (١) ولأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما يورثون العلم وخص اسم يعقوب اقتداء به نفسه إذ قال ليوسف : (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) [يوسف ، ٦] ولأن اسرائيل قد صار علما على الأسباط كلهم وكانت قد غلبت عليهم الأحداث ، وقرأ أبو عمرو والكسائي بجزم الثاء المثلثة فيهما على أنهما جواب الأمر إذ تقديرهما : إن تهب يرث والباقون بالضم فيهما على أنهما صفة واعترض بأن زكريا دعا الله تعالى أن يهبه ولدا يرثه مع أن يحيى قتل قبله فلم يجبه إلى إرثه منه وأجيب : بأن إجابة دعاء الأنبياء غالبة لا لازمة فقد يتخلف لقضاء الله تعالى بخلافه كما في دعاء إبراهيم في حق أبيه وكما في دعاء نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم في قوله : «وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها» (٢) ، ولما كان من قضاء الله تعالى وقدره أن يوجد يحيى نبيا صالحا ثم يقتل استجيب دعاء زكريا في إيجاده دون إرثه.
ولما ختم دعاءه بقوله : (وَاجْعَلْهُ رَبِ) أي : أيها المحسن إليّ (رَضِيًّا) أي : مرضيا عندك ، أجابه الله تعالى بقوله تعالى : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) يرث كما سألت (اسْمُهُ يَحْيى) وقرأ حمزة بفتح النون وسكون الباء الموحدة وضم الشين مخففة والباقون بضم النون وفتح الموحدة وكسر الشين مشددة وكذلك في آخر السورة.
تنبيه : يحيى اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة وقيل : منقول من الفعل المضارع كما سموا بيعمر ، وإنما تولى تعالى تسميته تشريفا له قال تعالى : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي : مسمى بيحيى ، قال قتادة والكلبي : لم يسمّ أحد قبله بيحيى.
تنبيه : (سَمِيًّا) مأخوذ من السمّو وفيه دلالة لقول البصريين إن الاسم من السمو ، ولو كان من الوسم لقيل وسيما ، وقال سعيد بن جبير وعطاء : لم نجعل له شبها ومثلا كما قال تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم ، ٦٥] أي : مثلا والمعنى : أنه لم يكن له مثل لأنه لم يعص ولم يهمّ بمعصية
__________________
(١) أخرجه أبو داود في العلم حديث ٣٦٤١ ، والترمذي في العلم حديث ٢٦٨٢ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٢٢٣ ، والدارمي في المقدمة حديث ٣٤٢.
(٢) أخرجه الترمذي في الفتن حديث ٢١٧٥.