والاستعداد فيه بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح ، أو في الصلاة باستقبال القبلة وقوله : (حَنِيفاً) حال من فاعل أقم أو من الدين أو من الوجه ، ومعناه : مائلا مع الدين غير معوج عنه إلى دين آخر وقوله تعالى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي : ممن يشرك بالله في عبادته غيره فتهلك ، خطابا للنبيّ صلىاللهعليهوسلم والمراد أمّته ، أي : ولا تكونن أيها الإنسان وكذا قوله تعالى : (وَلا تَدْعُ) أي : تعبد (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : غيره (ما لا يَنْفَعُكَ) أي : إن عبدته (وَلا يَضُرُّكَ) إن لم تعبده (فَإِنْ فَعَلْتَ) ذلك (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) لنفسك ؛ لأنك وضعت العبادة في غير موضعها ، والظلم : وضع الشيء في غير محله ، فإذا كان ما سوى الحق معزولا عن التصرّف كان إضافة التصرّف إلى ما سوى الحق وضعا للشيء في غير موضعه فيكون ظلما.
ولما ذكر الله تعالى الأوثان وبيّن أنها لا تقدر على ضرّ ولا نفع بيّن تعالى أنه هو القادر على كل شيء وأنه ذو الجود والكرم والرحمة بقوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ) أي : يصبك (اللهُ بِضُرٍّ) كفقر ومرض (فَلا كاشِفَ) أي : لا دافع (لَهُ إِلَّا هُوَ) لأنه الذي أنزله بك (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) كرخاء وصحة (فَلا رَادَّ) أي : دافع (لِفَضْلِهِ) أي : الذي أرادك به (يُصِيبُ بِهِ) أي : بالخير (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ) أي : البليغ الستر للذنوب (الرَّحِيمُ) أي : البالغ في الإكرام. وقرأ أبو عمرو وقالون والكسائي بسكون الهاء ، والباقون بالضم ، فرجح سبحانه وتعالى جانب الخير على جانب الشر من ثلاثة أوجه :
الأوّل : أنه تعالى لما ذكر إمساس الضر بين أنه لا كاشف له إلا هو ، وذلك يدل على أنه تعالى يزيل المضار ؛ لأنّ الاستثناء من النفي إثبات ، ولما ذكر الخير لم يقل بأنه يدفعه بل قال : إنه لا راد لفضله ، وذلك يدل على أنّ الخير مطلوب بالذات وأنّ الشر مطلوب بالعرض كما قال صلىاللهعليهوسلم : عن ربه تعالى أنه قال : «سبقت رحمتي غضبي» (١).
الثاني : أنه سبحانه وتعالى قال في صفة الخير يصيب به من يشاء من عباده ، وذلك يدل على أن جانب الخير أقوى وأغلب.
الثالث : أنه تعالى قال (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وهذا أيضا يدل على قوّة جانب الرحمة. وحاصل الكلام في هذه الآية : أنه سبحانه وتعالى بيّن أنه منفرد بالخلق والإيجاد والتكوين والإبداع وأنه لا موجد سواه ولا معبود إلا إياه ، وأنّ جميع الممكنات مسندة إليه وجميع الكائنات محتاجة إليه ، فالأيدي مرفوعة إليه ، والحاجات منتهية إليه ، والعقول والهة فيه ، والرحمة والجود فائض منه.
ولما قرر تعالى الدلائل المذكورة في التوحيد والنبوّة والمعاد ، وزين أمر هذه السورة بهذه البيانات الدالة على كونه تعالى مبتدئا بالخلق والإبداع والتكوين والاختراع ختمها بهذه الخاتمة الشريفة العالية لئلا يبقى لأحد عذر بقوله تعالى : (قُلْ) يا محمد (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي : الذين أرسلت إليهم (قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) هو رسول الله صلىاللهعليهوسلم جاء بالحق من الله تعالى والقرآن فلم يبق لكم عذر (فَمَنِ اهْتَدى) أي : آمن بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم وعمل بما في الكتاب (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) لأنه اتبع الحق الثابت وترك الباطل الزائل ، فأنقذ نفسه من النار وأوجب لها الجنة فثواب اهتدائه له
__________________
(١) تقدم الحديث مع تخريجه قبل قليل.