وقال الكلبي : هل تعلم أحدا تسمى الله غيره فإنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله تعالى على شيء.
ولما أمر تعالى بالعبادة والمصابرة عليها فكأنّ سائلا سأل وقال : هذه العبادة لا منفعة فيها في الدنيا وأمّا في الآخرة فقد أنكرها بعضهم فلا بدّ من ذكر الدلالة على القول بالحشر حتى يظهر أنّ الاشتغال بالعبادة يفيد فلهذا حكى الله سبحانه وتعالى قول منكري الحشر فقال تعالى : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) قال الكلبيّ : نزلت في أبيّ بن خلف حين أخذ عظاما بالية فتتها بيديه ويقول : زعم لكم محمد أنا نبعث بعدما نموت وقيل : نزلت في أبي جهل ، وقيل : المراد جنس الكفار القائلين بعدم البعث.
ثم إنّ الله تعالى أقام الدليل على صحة البعث بقوله : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) أي : المجترئ بهذا الإنكار على ربه (أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل جدله (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) أصلا وإنا بمقتضى ذلك قادرون على إعادته فلا ينكر ذلك قال بعض العلماء : لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار ما قدروا عليه إذ لا شك أن الإعادة ثانيا أهون من الإيجاد أوّلا. ونظيره قوله تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس ، ٧٩] وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم ، ٢٧] وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بسكون الذال وضم الكاف مخففة والباقون بفتح الذال مشدّدة وكذا الكاف.
فإن قيل : كيف أمر الله الإنسان بالتذكر مع أنّ التذكر هو العلم بما علمه من قبل ثم تخللهما سهو؟ أجيب : بأنّ المراد أولا يتفكر فيعلم خصوصا إذا قرئ أولا يذكر مشدّدا ، أمّا إذا قرئ مخففا فالمراد أولا يعلم ذلك من حال نفسه لأنّ كل أحد يعلم أنه لم يكن حيا في الدنيا ثم صار حيا.
ثم إنه تعالى لما قرّر المطلوب بالدليل أردفه بالتهديد من وجوه : أوّلها قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك بالانتقام منهم (لَنَحْشُرَنَّهُمْ) بعد البعث (وَالشَّياطِينَ) الذين يضلونهم بأن نحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة وفائدة القسم أمران :
أحدهما : أن العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين والثاني : في إقسام الله باسمه مضافا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم تفخيم لشأنه ورفع منه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله تعالى : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) [الذاريات ، ٢٣] والواو في (وَالشَّياطِينَ) يجوز أن تكون للعطف وبمعنى مع وهو أولى. ثانيها : قوله تعالى : (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ) بعد طول الوقوف (حَوْلَ جَهَنَّمَ) من خارجها ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله تعالى منها وخلصهم فيزدادوا لذلك غبطة إلى غبطتهم وسرورا إلى سرورهم ويشمتوا بأعداء الله وأعدائهم فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغبطهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم وقوله تعالى : (جِثِيًّا) حال مقدرة من مفعول (لَنُحْضِرَنَّهُمْ) وهو جمع جاث جمع على فعول نحو : قاعد وقعود وجالس وجلوس وأصله جثوو بواوين أو جثوى من جثا يجثو ويجثى لغتان.
فإن قيل : هذا المعنى حاصل للكل بدليل قوله تعالى : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) [الجاثية ، ٢٨] ولأنّ العادة جارية بأنّ الناس في مواقف مطالبات الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من القلق أو لما يدهمهم من شدّة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم ، وإذا كان هذا حاصلا للكل فكيف يدل على مزيد ذل الكفار؟ أجيب : بأنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور