على هذه الحالة وذلك يوجب مزيد ذلهم وقرأ حفص وحمزة والكسائي (جِثِيًّا) و (عِتِيًّا) و (صِلِيًّا) بكسر أوّلها والباقون بضمه.
ثالثها : قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَ) أي : لنأخذن أخذا بشدّة وعنف (مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) أي : فرقة مرتبطة بمذهب واحد (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ) الذي غمرهم بالإحسان (عِتِيًّا) أي : تكبرا مجاوزا للحدّ والمعنى : أنّ الله تعالى يحضرهم أوّلا حول جهنم ثم يميز البعض من البعض فمن كان أشدّهم تمرّدا في كفره خص بعذاب عظيم لأنّ عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعا لغيره وليس عذاب من يتمرّد ويتجبر كعذاب المقلد ففائدة هذا التمييز التخصيص بشدّة العذاب لا التخصيص بأصل العذاب ، ولذلك قال تعالى في جميعهم : (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ) من كل عالم (بِالَّذِينَ هُمْ) بظواهرهم وبواطنهم (أَوْلى بِها) أي : بجهنم (صِلِيًّا) أي : دخولا واحتراقا فنبدأ بهم ولا يقال : أولى إلا مع اشتراكهم وأصله صلوى من صلىّ بكسر اللام وفتحها.
تنبيه : في إعراب (أَيُّهُمْ أَشَدُّ) أقوال كثيرة أظهرها عند جمهور المعربين وهو مذهب سيبويه أن (أَيُّهُمْ) موصولة بمعنى الذي وإن حركتها حركة بناء بنيت عند سيبويه لخروجها عن النظائر و (أَشَدُّ) خبر مبتدأ مضمر والجملة صلة لأيهم وأيهم وصلتها في محل نصب مفعول بها ، ولأيّ أحوال أربعة ذكرتها في شرح القطر.
ولما كانوا بهذا الإعلام المؤكد بالإقسام من ذي الجلال والإكرام جديرين بإصغاء الأفهام إلى ما توجه إليها من الكلام التفت إلى مقام الخطاب إفهاما للعموم فقال تعالى : (وَإِنْ) أي : وما (مِنْكُمْ) أيها الناس أحدا (إِلَّا وارِدُها كانَ) ذلك الورود (عَلى رَبِّكَ) الموجد لك المحسن إليك (حَتْماً مَقْضِيًّا) أي : حتمه وقضى به لا يتركه والورود موافاة المكان فاختلفوا في معنى الورود هنا. فقال ابن عباس والأكثرون : الورود ههنا هو الدخول والكناية راجعة إلى النار وقالوا : يدخلها البرّ والفاجر ثم ينجي الله المتقين فيخرجهم منها ويدل على أنّ الورود هو الدخول قوله تعالى : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) [هود ، ٩٨] وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنّ نافع بن الأزرق مارى ابن عباس في الورود فقال ابن عباس : هو الدخول وقال نافع : ليس الورود الدخول ، فتلا ابن عباس (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [الأنبياء ، ٩٨] أدخلها هؤلاء أم لا؟ ثم قال : يا نافع أما والله أنا وأنت سنردها وأنا أرجو أن يخرجني الله منها وما أرى الله يخرجك منها بتكذيبك ، ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي : الكفر منها ولا يجوز أن يقول ثم ننجي الذين اتقوا (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ) بالكفر (فِيها جِثِيًّا) على الركب ألا والكل واردون والأخبار المروية دالة على هذا القول روي أنّ عبد الله بن رواحة قال أخبر الله تعالى عن الورود ولم يخبر بالصدر فقال صلىاللهعليهوسلم : «يا ابن رواحة اقرأ ما بعدها (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا)(١) فدلّ على أنّ ابن رواحة فهم من الورود الدخول ولم ينكر عليه النبيّ صلىاللهعليهوسلم ذلك. وعن جابر أنه سئل عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «الورود الدخول ولا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها
__________________
(١) أخرجه بنحوه المتقي الهندي في كنز العمال ٢٩٩٩٣.