والطمع فقال : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) أي : شعلة في رأس فتيلة أو عود أو نحو ذلك وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء في إني ولعلي الآتية والباقون بالسكون إلا ابن عامر ففتح لعلي مع من ذكروهم على مراتبهم في المدّ (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) أي : هاديا يدلني على الطريق ومعنى الاستعلاء في على النار أنّ أهل النار يستعلون المكان القريب منها كما قال سيبويه في مررت بزيد إنه لصوق بمكان يقرب من زيد أو لأنّ المصطلين بها إذا أحاطوا بها كانوا مشرفين عليها.
وقال بعضهم : النار أربعة أقسام نار تأكل ولا تشرب وهي نار الدنيا ونار تشرب ولا تأكل وهي التي في الشجر الأخضر كما قال تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) [يس ، ٨٠] ونار تأكل وتشرب وهي نار المعدة ونار لا تأكل ولا تشرب وهي نار موسى.
وقيل أيضا : النار أربعة : أحدها : نار لها نور بلا حرقة وهي نار موسى ، ثانيها : لها حرقة بلا نور وهي نار جهنم أعاذنا الله تعالى منها ، ثالثها : لها الحرقة والنور وهي نار الدنيا ، رابعها : لا حرقة ولا نور وهي نار الأشجار.
تنبيه : إن وصلت هدى ب (فَلَمَّا) فليس فيها إلا التنوين للجميع وإن وقف عليها فهم على أصولهم في الفتح والإمالة وبين اللفظين
(فَلَمَّا أَتاها) أي : النار قال ابن عباس : رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها أطافت بها نار بيضاء تتقد كأضوأ ما يكون فوقف متعجبا من شدّة ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة فلا النار تغير خضرتها ولا كثرة ماء الشجرة يغير ضوء النار قال ابن مسعود : كانت الشجرة مثمرة خضراء وقال مقاتل وقتادة والكلبي : كانت من العوسج ، وقال وهب : كانت من العليق ، وقيل : من العناب قال أكثر المفسرين : إنّ الذي رآه موسى لم يكن نارا بل كان من نور الرب تعالى وهو قول ابن عباس وعكرمة وغيرهما ذكر بلفظ النار لأنّ موسى حسبه نارا فلما دنا منها سمع تسبيح الملائكة ورأى نورا عظيما قال وهب : ظنّ موسى أنها نار أوقدت فأخذ من دقاق الحطب وهو الحشيش اليابس ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده فتأخر عنها وهابها ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها ثم لم يكن بأسرع من خمودها كأنها لم تكن ثم رمى موسى ببصره إلى فروعها فإذا خضرتها ساطعة في السماء وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكلّ عنه الأبصار.
فلما رأى موسى ذلك وضع يديه على عينيه وألقيت عليه السكينة (نُودِيَ يا مُوسى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) قال وهب نودي من الشجرة فقيل : يا موسى فأجاب سريعا ولم يدر من دعاه فقال : إني أسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت فقال : أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك منك فعلم أنّ ذلك لا ينبغي إلا لله تعالى فأيقن به.
وقيل : إنه سمع بكل أجزائه حتى أنّ كل جارحة منه كانت أذنا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الهمزة من (إِنِّي) على تقدير الباء أي : بأني لأنّ النداء يوصل بها تقول ناديته بكذا وأنشد الفارسي قول الشاعر (١) :
ناديت باسم ربيعة بن مكدّم |
|
أنّ المنوه باسمه الموثوق |
وجوّز ابن عطية أن تكون بمعنى لأجل وليس بظاهر والباقون بالكسر إمّا على إضمار القول
__________________
(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.