وعن محمد بن كعب القرظي قال : قال موسى : إلهي أي خلقك أكرم عليك؟ قال : الذي لا يزال لسانه رطبا من ذكري ، قال : فأي خلقك أعظم؟ قال : الذي يلتمس إلى علمه علم غيره ، قال : فأيّ خلقك أعدل؟ قال : الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس ، قال : وأيّ خلقك أعظم جرما؟ قال : الذي يتهمني وهو الذي يسألني ثم لا يرضى بما قسمت له. إلهنا إنا لانتهمك فإنّا نعلم أنّ كل ما أحسنت به فهو فضل وكل ما لا تفعله فهو عدل فلا تؤاخذنا بسوء أفعالنا وأعمالنا.
وعن الحسن إذا كان يوم القيامة نادى مناد سيعلم الجمع من أولى بالكرم أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون فيتخطون رقاب الناس ، ثم يقال : أين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله؟ ثم ينادي مناد : أين الحامدون الله كثيرا على كل حال؟ ثم يكون الحساب على من بقي. إلهنا نحن حمدناك وأثنينا عليك بمقدار طاقتنا ومنتهى قدرتنا فاعف عنا بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين ، ولما عظّم الله تعالى حال القرآن وحال رسوله صلىاللهعليهوسلم بما كلفه أتبع ذلك بما يقوي قلب رسوله صلىاللهعليهوسلم من ذكر أحوال الأنبياء تقوية لقلبه في الإبلاغ كقوله تعالى :
(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) [هود ، ١٢٠] وبدأ بموسى لأنّ فتنته كانت أعظم الفتن ليتسلى قلب الرسول صلىاللهعليهوسلم ويصبر على حمل المكاره ، فقال تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) وهذا محتمل لأن يكون هذا أوّل ما أخبر به من أمر موسى فقال : (وَهَلْ أَتاكَ) أي : لم يأتك إلى الآن فتنبه له وهذا قول الكلبي ومحتمل أن يكون قد أتاه ذلك في الزمان المتقدم فكأنه قال : أليس قد أتاك؟ وهذا قول مقاتل والضحاك عن ابن عباس وهذا وإن كان على لفظ الاستفهام الذي لا يجوز على الله تعالى لكن المقصود منه تقرير الخبر في نفسه وهذه الصورة أبلغ في ذلك كقولك لصاحبك : هل بلغك عني كذا؟ فيتطلع السامع إلى معرفة ما يومئ إليه ولو كان المقصود هو الاستفهام لكان الجواب يصدر من قبل موسى لا من قبل الله تعالى ، وقيل : إن (هَلْ) بمعنى قد وجرى على ذلك الجلال المحلي تبعا للبغوي.
وقوله تعالى : (إِذْ رَأى) يجوز أن يكون منصوبا بالحديث وهو الظاهر ويجوز أن ينصب باذكر مقدرا أي : واذكر إذ رأى (ناراً) وذلك أنّ موسى استأذن شعيبا في الرجوع من مدين إلى مصر لزيارة والدته وأخيه فأذن له فخرج بأهله وماله وكانت أيام شتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام وامرأته حامل في شهرها لا تدري ليلا تضع أو نهارا فسار في البرية غير عارف بطرقها فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد.
قيل : كانت ليلة جمعة وأخذت امرأته في الطلق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وجعل يقدح زنده فلا يوري فأبصر نارا من بعيد عن يسار الطريق من جانب الطور (فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) أي : أقيموا في مكانكم والخطاب لامرأته وولدها والخادم ويجوز أن يكون للمرأة وحدها خرج على ظاهر لفظ الأهل فإنّ الأهل يقع على الجمع وأيضا قد يخاطب الواحد بلفظ الجمع تفخيما وقرأ حمزة بضم الهاء في الوصل والباقون بالكسر (إِنِّي آنَسْتُ) أي : أبصرت (ناراً) والإيناس الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل : الجنّ لاستتارهم.
وقيل : إبصار ما يؤنس به ولما وجد منه الإيناس وكان متيقنا حققه لهم بكلمة إني ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء