الحق والإقبال على عبودية الحق درجات غير متناهية فكذلك مراتب السعادة الأخروية غير متناهية ، فلهذا السبب قال تعالى : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ.) وقال أبو العالية : من كثرت طاعاته في الدنيا زادت درجاته في الآخرة. وقال ابن عباس : من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة ، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار ، ومن استوت سيئاته وحسناته كان من أهل الأعراف ثم يدخلون الجنة. وقال ابن مسعود : من عمل سيئة كتبت له سيئة ، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات ، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من حسناته العشر واحدة وبقي له تسع حسنات ، ثم يقول ابن مسعود : هلك من غلب آحاده أعشاره. وقوله تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّوْا) فيه حذف إحدى التاءين ، أي : وإن تعرضوا عما جئتكم به من الهدى (فَإِنِّي) أي : فقل لهم إني (أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) هو يوم القيامة وصف بالكبر كما وصف بالعظم والثقل. وقيل : يوم الشدائد وقد ابتلوا بالقحط حتى أكلوا الجيف.
(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) أي : رجوعكم في ذلك اليوم فيثيب المحسن على إحسانه ، ويعاقب المسيء على إساءته (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : قادر على جميع المقدورات لا دافع لقضائه ولا مانع لمشيئته ، ومنه الثواب والعقاب ، وفي ذلك دلالة على قدرة عالية وجلالة عظيمة لهذا الحاكم وعلى ضعف لهذا العبد ، والملك القاهر العالي إذا رأى عاجزا مشرفا على الهلاك فإنه يخلصه من الهلاك ، ومنه المثل المشهور : ملكت فأسجح ، أي : فاعف ، يقول مصنف هذا الكتاب : قد أفنيت عمري في خدمة العلم ومطالعة الكتب ولا رجاء لي في شيء إلا أني في غاية الذلة والقصور. والكريم إذا قدر عفا. فأسألك يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين وساتر عيوب المعيوبين أن تفيض سجال رحمتك عليّ وعلى والديّ وأولادي وإخواني وأحبابي ، وأن تخصني وإياهم بالفضل والتجاوز والجود والكرم. واختلفوا في سبب نزول قوله تعالى :
(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) فقال ابن عباس : نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر يلقى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بما يحب وينطوي بقلبه على ما يكره فمعنى قوله تعالى : (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة. وقال عبد الله بن شدّاد : نزلت في بعض المنافقين كان إذا مرّ برسول الله صلىاللهعليهوسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كي لا يراه النبيّ صلىاللهعليهوسلم وقال قتادة : كانوا يحنون ظهورهم كي لا يسمعوا كلام الله تعالى ولا ذكره. وروى البخاري عن ابن عباس أنها نزلت فيمن كان يستحي أن يتخلى أو يجامع فيفضي إلى السماء (١). وقيل : كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويتغشى بثوبه ويقول : هل يعلم الله ما في قلبي. وقال السدي : يثنون صدورهم أي : يعرضون بقلوبهم من قولهم : ثنيت عناني (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أي : من الله تعالى بسرهم فلا يطلع رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمؤمنون عليه. وقيل : من رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقد قيل : إنها نزلت في طائفة من المشركين قالوا : إن أرخينا علينا ستورا واستغشينا ثيابا وطوينا صدورنا على عداوة محمد كيف يعلم (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) أي : يأوون إلى فراشهم ويتغطون بثيابهم (يَعْلَمُ) تعالى (ما يُسِرُّونَ) في قلوبهم (وَما يُعْلِنُونَ) بأفواههم ، أي : أنه لا تفاوت في علمه تعالى بين إسرارهم وإعلانهم ، فلا وجه لتوصلهم إلى ما
__________________
(١) انظر البخاري في تفسير القرآن ، حديث ٤٦٨١.