ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم ، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم ، وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم ، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم ، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم ، ألم تعلموا أنه أيوب نبي الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض إلى يومكم هذا ، ثم لم تعلموا ولم يطلعكم الله على أنه قد سخط شيئا من أمره منذ ما آتاه الله ما آتاه إلى يومكم هذا ولا أنه نزع شيئا منه من الكرامة التي أكرمه بها ، ولا أنّ أيوب قال على الله غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا ، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن الله تعالى يبتلي المؤمنين والصدّيقين والشهداء والصالحين ، وليس بلاؤه لأولئك على سخطه عليهم ، ولا لهوانه لهم ، ولكنها كرامة وخبرة لهم ، ولو كان أيوب ليس من الله بهذه المنزلة إلا أنه أخ آخيتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحكيم أن يعذل أخاه عند البلاء ولا يعيره بالمصيبة ، ولا يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين ، ولكنه يرحمه ويبكي معه ، ويستغفر له ، ويحزن لحزنه ويدله على أرشد أمره ، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا ، فالله الله أيها الكهول ، فقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ، ويكسر قلوبكم ، ألم تعلموا أنّ لله عبادا أسكتتهم خشيته من غير عيّ ، ولا بكم ، وإنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون بالله ، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم ، واقشعرّت جلودهم ، وانكسرت قلوبهم ، وطاشت عقولهم إعظاما لله وإجلالا له ، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدّون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين ، وإنهم لأبرار براء ، ومع المقصرين المفرطين ، وإنهم لأكياس أقوياء.
فقال أيوب : إنّ الله سبحانه وتعالى يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير ، فمتى ثبتت في القلب يظهرها الله تعالى على اللسان ، وليست تكون الحكمة من قبل السن والشيبة ، ولا طول التجربة ، وإذا جعل الله العبد حكيما في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء ، وهم يرون عليه من الله تعالى نور الكرامة ، ثم أعرض عنهم أيوب يعني الثلاثة وقال : أتيتموني غضابا رهبتم قبل أن تسترهبوا ، وبكيتم قبل أن تضربوا ، فكيف بي لو قلت تصدقوا عليّ بأموالكم لعل الله أن يخلصني ، أو قربوا قربانا لعل الله أن يتقبله ويرضى عني ، وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم ، وظننتم أنكم عوضتم بإحسانكم ، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم ، ثم صدقتم لوجدتم لكم عيوبا قد سترها الله تعالى بالعافية التي ألبسكم ، وقد كنتم فيما خلا توقرونني وأنا مسموع كلامي معروف حقي منتصف من خصمي ، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام ، وأنتم كنتم أشد عليّ من مصيبتي ، ثم أعرض عنهم أيوب وأقبل على ربه مستعينا به مستغفرا متضرّعا إليه.
فقال : يا رب لأيّ شيء خلقتني ليتني إذ كرهتني لم تخلقني يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت ، فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتني ، فألحقتني بآبائي ، فالموت كان أجمل بي ، ألم أكن للغريب دارا وللمسلمين قرارا ، ولليتيم وليا ، وللأرملة قيما ، إلهي أنا عبدك إن أحسنت إليّ فالمنّ لك ، وإن أسأت فبيدك عقوبتي ؛ جعلتني للبلاء غرضا وللفتنة نصبا ، وقد وقع بي بلاء لو سلطته على جبل ضعف عن حمله ، فكيف يحمله ضعفي ، فإن قضاءك هو الذي أذلني ، وإنّ سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي ، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فمي ، فأدلي بعذري ، وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي لرجوت أن يعافيني عند