(سَخَّرَ لَكُمْ) فضلا منه (ما فِي الْأَرْضِ) كله من مسالكها وفجاجها ، وما فيها من حيوان وجماد وزرع وثمار ، فلو لا تسخيره تعالى الإبل والبقر مع قوتهما حتى ذللهما للضعيف من الناس لما انتفع بهما أحد منهم.
الأمر الرابع : قوله تعالى : (وَالْفُلْكَ) أي : وسخر لكم الفلك أي : السفن ، ثم بيّن تسخيرها بقوله : (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) العجاج المتلاطم بالأمواج بريح طيبة للركوب والحمل (بِأَمْرِهِ) أي : بإذنه.
الأمر الخامس : قوله تعالى : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ) أي : كراهة (أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) التي تحتها مع علوها وعظمها وكونها بغير عمد فتهلكوا (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي : بمشيئته ، فيقع ذلك يوم القيامة حين يريد طي هذا العالم وإيجاد عالم البقاء (أَنَّ اللهَ) أي : الذي له الخلق والأمر (بِالنَّاسِ) أي : على ظلمهم (لَرَؤُفٌ) أي : بما يحفظ من سرائرهم (رَحِيمٌ) أي : حيث هيأ لهم أسباب الاستدلال وفتح لهم أبواب المنافع ، ودفع عنهم أبواب المضار.
(وَهُوَ) أي : وحده (الَّذِي أَحْياكُمْ) أي : عن الجمادية بعد أنّ أوجدكم من العدم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) أي : عند انقضاء آجالكم ليكون الموت واعظا لأولي البصائر منكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي : يوم البعث للثواب والعقاب وإظهار العدل في الجزاء (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي : المشرك (لَكَفُورٌ) أي : لبليغ الكفر حيث لم يشكر على هذه النعم المحيطة به فيوحد الله تعالى ، وقال ابن عباس : هو الأسود بن عبد الأسد ، وأبو جهل ، والعاص بن وائل ، وأبيّ بن خلف ، قال الرازي : والأولى تعميمه في كل المنكرين.
(لِكُلِّ أُمَّةٍ) أي : في كل زمان (جَعَلْنا مَنْسَكاً) قال ابن عباس : شريعة يتعبدن بها (هُمْ ناسِكُوهُ) أي : عاملون بها ، وروي عنه أنه قال : عيدا ، وقال مجاهد وقتادة : موضع قربان يذبحون فيه ، وقيل : موضع عبادة ، وقرأ حمزة والكسائي : منسكا ، بكسر السين ، والباقون بفتحها (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي : أمر الذبائح ، نزلت في بديل بن ورقاء ، وبشر بن سفيان ، ويزيد بن خنيس قالوا لأصحاب النبيّ : صلىاللهعليهوسلم : ما لكم تأكلون مما تقتلون ، ولا تأكلون مما قتله الله تعالى؟ يعنون الميتة ، وقال الزجاج : هو نهي له صلىاللهعليهوسلم عن منازعتهم كما تقول : لا يضاربنك فلان أي : فلا تضاربه ، وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلا بين اثنين معناه لا تنازعهم أنت (وَادْعُ) أي : أوقع الدعوة لجميع الخلق (إِلى رَبِّكَ) المحسن إليك أي : إلى دينه ، ثم علل ذلك بقوله : (إِنَّكَ) مؤكدا له بحسب ما عندهم من الإنكار (لَعَلى هُدىً) أي : دين واضح (مُسْتَقِيمٍ) هو دين الإسلام.
(وَإِنْ جادَلُوكَ) أي : في أمر الدين بعد أنّ ظهر الحق ولزمت الحجة (فَقُلِ اللهُ) أي : الملك المحيط بالعز والعلم (أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) من المجادلة الباطلة وغيرها ، فيجازيكم عليه وهذا وعيد فيه رفق ، وكان ذلك قبل الأمر بالقتال.
ولما أمر الله تعالى بالإعراض عنهم ، وكان ذلك شديدا على النفس لتشوقها إلى النصرة رجاه في ذلك بقوله تعالى مستأنفا تحذيرا لهم : (اللهُ) أي : الذي لا كفء له (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أي : بينك مع اتباعك وبينهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) الذي هو يوم التغابن (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين ومن نصر ذلك اليوم لم يبال بما حلّ به ، فهو كقوله : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء ، ٢٢٧] ؛ قال البغوي : والاختلاف ذهاب كل واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر.